من ضيق عليها السبل وجعل كل يوم من أيامها نهاية متوقعة لكل الاحتمالات الجميلة؟ ينشغل الذهن بمقارنات مع الماضي التعيس للدكتاتورية، وتوشك الإجابة أن تكشف أسفا على الماضي الحزين. فالمزاج السوداوي المسيطر على صيف تونس 2021 لم تعشه البلاد سابقا، أو لعل البلاد أملت قطيعة جذرية مع ماضيها فإذا هي تتجه إلى الأسوأ. لكن العزاء الباقي أننا نرى الفاعلين الذين يبثون الموت في المستقبل قادمون من الماضي الحزين، كأنهم أشباح موتى تنبعث في حاضرنا لتغلق بوابات المستقبل، فتناور البلاد في ممر ضيق لتخرج إلى رحابة ثورة لم تتلاش من نفوس كثيرة.
سنصبر خارج التحليل لنشهد خروجا أخيرا من ميراث الديكتاتورية. يوجد فضاء حر في نهاية الممر الضيق وسنصل مشيا أو حبوا أو زحفا على أكفنا المدماة، فليس وراءنا إلا الوراء.
الرئيس يحاصر شعبه
انقلب الرئيس على نفسه أولا وغادر الخطاب الذي دخل به المشهد السياسي، لنكتشف أن حنينه إلى ماضي الدكتاتورية هو الأصل في تفكيره أو هو الخلفية الموجهة لفعله السياسي. لاحظنا في السنة الأولى لحكمه انقلابه على القاعدة الشعبية التي صوتت في ما يشبه الاستفتاء على شخصه، وقد رسم له الجمهور العريض صورة ابن الشعب الفقير القادم من حي الفقراء ليحكم باسم الثورة.
قبل نهاية السنة تخلى عن هذا الجمهور وأحاط نفسه بالجمهور الذي صوت ضده، وهو جمهور معاد للثورة ومطالبها وجمهورها. قبل نهاية السنة الثانية انقلب على الجميع وكشف حنينه للزعامة المنفردة، فإذا هو يسقط الدستور الذي أقسم عليه، ويعمل على استعادة دستور الدكتاتورية (دستور 1959 الملغى)، ليجر النقاش إلى ماض كريه حسم فيه الجمهور المغبون وحسمت فيه كل النخب بمن فيها الذين انحازوا إليه واتخذوه وسيلة لحربهم الاستئصالية.
هذا النقاش المفوت والذي وجب دحضه أيضا صرف أذهان الناس عن مقاومة الوباء ومخلفاته الصحية والاقتصادية، فإذا الناس غارقون في معركة ظنوا أنهم تجاوزوها إلى معارك المستقبل التي أذنت بها الثورة الاجتماعية. هل كانت هذه خطته الأصلية: التسلل الخبيث إلى موقع قيادي أول ثم إعادة فرض النقاش في الماضي بغية استعادته؟ أم هو دليل يكشف أنه لم يكن للرجل خطة حكم وهو يرقع فراغات فكره وبرنامجه (أو بالأحرى ألا برنامج)؟
الإجابة الوحيدة المتاحة على الأسئلة الحائرة هي أن الشعب الكريم غارق في نقاش لا يجديه نفعا في مقاومة الأزمة الصحية والاقتصادية، بحيث يصل إلى حالة إحباط نفسي مدمرة، فيذهب البعض إلى الحلم بثورة ثانية مطهرة، ويذهب آخرون إلى تمني الموت والخلاص من الوضع الكريه. ووحدهم الاستئصاليون الذين لم يغيروا فكرهم وخططهم؛ يسعون خلف الرئيس بالدعم وبالدعاية الممجوجة باعتباره المخلص من داء الإسلام السياسي.. تلك المعركة التي لم تحسم ولا يريد لها أصحابها أن تنتهي ولا يريدون فيها هدنة رغم الأثر المدمر للوباء، لقد حاصر الرئيس نفسه في زاوية ضيقة لكنه حمل معه الشعب إلى ضيق.
الاستئصاليون يشتغلون مع الوباء
كلما حاولنا تغيير زاوية النظر إلى المعارك السياسية المحتدمة في تونس وجدنا أنفسنا أمام الخطة الاستئصالية القديمة التي يحرض عليها حزب فرنسا الحداثي، وقد تحالف فيها مع الفاشية التجمعية العائدة من سماحة الثورة التي لم تصف أعداءها في الشارع. لقد تحولت السماحة إلى عبء على الثورة وعلى أنصارها، ولم يعد بإمكانهم استئناف عمل سياسي يحسم بالقانون ما لم يحسمه الشارع.
لقد تحول التفكير في استعمال الشارع إلى جريمة يصعب أن يتحمل كلفتها أي طرف سياسي، ومن غير المجدي هنا التندم على ما فات، فقد انتعشت آمال المنظومة القديمة فأخذت مواقع نافذة تصعب زحزحتها منها بقوة الفعل السياسي وحده؛ لأن منفذ العودة اتسع على كل راتق. والترقيع الجاري الآن لا ينتج إلا مزيدا من التشتت لأن قدرة المنظومة على اختراق أنصار الثورة (المعلنين) فاق قدرة الثوريين على حماية ثورتهم. ونستشعر أن "الثوريين" فقدوا ثوريتهم ولا يجدون بابا للعودة إلى زخم العام الأول، حين كان أنصار المنظومة يلبسون السفساري والنقاب ويتخفون من ضحاياهم.
الحكومة السياسية القادمة هل تحمل حلا؟
مجلس شورى النهضة يقترح في اجتماعه الأخير (4-5 تموز/ يوليو) حكومة سياسية في آخر الصيف. وقد انطلقت المشاورات وبناء التحالفات قبل ذلك في كنف السرية بين حزب النهضة وحزب قلب تونس وحزب الائتلاف (مائة نائب). ستكون حكومة جديدة، وإن كان حديث النهضة على بقاء المشيشي (ابن الإدارة العميقة وريثة التجمع الصامت) على رأس الحكومة مسموعا. فهو يضمن ضم نواب آخرين ممن نسميهم شبيبة التجمع القديمة، لتجد الحكومة أكثر من 109 نواب للمصادقة عليها.
من الواضح أن هذا الخيار سيكون بمثابة تحد للرئيس الذي يعطل ولا يقترح وأن الأمر سيكون عبارة على مرور بقوة تستغني عن رضا الرئيس، وربما عن أداء قسم الوزراء أمامه. وهناك أحاديث رائجة على أن الحكومة السياسية مقترح أصدقاء من الخارج يرغبون في العمل مع حكومة مستقرة وذات طول على قراراتها، بقطع النظر عن مؤسسة الرئاسة الغاضبة من كل شيء.
لكن وهنا الممر الضيق أو عنق الزجاجة مهما كان سند الحكومة البرلماني قويا وكافيا، فإنها مضطرة إلى مواجهة الرئيس وحزامه وقد تلزمه قصره لا يبرحه بعد عامين من محاولة توظيف أجهزة الدولة ضد الدولة نفسها. لكن القبول الشعبي بها لن يكون إلا عبر ما تقدمه من إنجازات سريعة في مواجهة الوباء وآثاره الاقتصادية في مفتتح السنة السياسية الجديدة، حيث أن ظهور نتائج اقتصادية سريعة سيكون بمثابة رصيد سياسي يجلب لها رضا قطاعات واسعة لم تبد أبدا مشغولة بالنقاش الدستوري الذي يفرضه الرئيس.
هل تقدر على ذلك؟ تبشر الحكومة وحزامها الحالي بفوائد قادمة من الصندوق القطري الذي سُمح له بالعمل القانوني في تونس، كما بشرت بحلول مفيدة عبر العلاقة الجيدة مع طرابلس التي ترمم نفسها بيد عاملة تونسية خبيرة ومقبولة ومرحب بها، وشركات صغيرة تسربت في معركة إعادة البناء ووجدت حصة واعدة.
هل سيكون الخروج من الأزمة بيد الحكومة السياسية في شهر أيلول/ سبتمبر؟ نريد أن نجيب بنعم لنوسع الممر الضيق نحو المستقبل، لكننا نتحفظ بعقلانية فالأمر ليس بالأماني، والرئيس لن يترك الساحة وسيخوض نقاشه القانوني حتى النهاية، وسيضع حزامه العراقيل التي تعوّد على وضعها منذ الثورة في الطريق.
وقد أعلن اليسار النقابي حربه على الصندوق القطري، وهو يريد منعه من العمل بالشارع وبالقضاء. نكتب بيقين أن الأزمة ستستمر ما استمرت قدرة النقابة على التعطيل والعرقلة، وأن الحكومة وحزامها لا يمسكان بمقاليد السيطرة على الإدارة والاقتصاد ما دامت النقابة مطلقة اليد في البلاد تفعل بها ما تشاء. والأسوأ أننا نعاين تواطؤا حزبيا من حزام الحكومة مع النقابة بدعوى رشوتها وتحييدها على طريقة ابن علي، وهذا خطأ قاتل يرتكبه حزام الحكومة وخاصة حزب النهضة؛ الذي يخطئ في تشخيص المرحلة ومفاعيلها، ظانا أنه يمكن أن يجد في النقابة حليفا لمواجهة الأزمة الاقتصادية. لقد كانت النقابة وسيلة تضييق الطريق نحو المستقبل ولن يكون ممكنا أن تشارك في فتح الطريق.
نحن في الممر الضيق وليس وراءنا إلا الوراء، وأمامنا قوم يعيشون فقط من قتل الإسلاميين، والحكومة السياسية التي سيكون عمادها الإسلاميون لن تحظى بالسلام. هناك معركة أخرى إن لم يخضها الناس ضد النقابة فلن ينصلح حال البلد.. الحل يبدأ من هناك.