منذ كتبت عن الباكلوريا وذكرياتها أمسكت بخناقي غصة وسمعت أم كلثوم يا ظالمني وبكيت . كنت لحظتها في حصة مراقبة امتحانات وكنت أرى الغصص في العيون وهيج شجني الأصدقاء فكتبت و أظنني مررت بلحظة غرور لكني أضع قدمي على الأرض دوما أنا لست بطلا أنا واحد من الناس لكن قلبي تعبي منذ الصغر. يمكنني تعداد ألف سبب لكن التبرير غرور آخر .سأحدثكم.
سنة 1983 كانت أول دفعة باكالوريا في معهد الحامة وكان ذلك ثمرة صراع طويل بين القوابسية والحوامية وهو صراع متخلف صنعته عقود القهر الاستعماري ودولة الاستقلال الدستورية. عاش الحوامية بشعور غبن أمام العائلات القابسية المتنفذة بقوة الحزب فبينما يرى أهل الحامة أنفسهم من حملة السلاح يتصرف بعض أهل قابس (لا جميعهم) كملاك للبلد ويقصون من منافع الدولة كل قرى قابس. وكان تلاميذ الحامة ينتقلون منذ السنة الثالثة إلى معاهد قابس كمقيمين (بياتة) ويعيشون غربتهم هناك (البيات محتقر) وكنت من أول دفعة درست منذ السنة الرابعة (نظام قديم) شعبة آداب وشعبة علوم بالحامة حتى كانت سنة الباك.(وهو قرار اتخذه المزالي في زيارة إلى بلاد المرابطين سنة 81 وهي لغة أخرى تعيش من الصراعات الجهوية الصغيرة).
إدارة المعهد وكلهم من أبناء المنطقة ومتنفذيها وفي سياق نفس الصراع ومن أجل ضمان نتائج في مستوى المعركة الصامتة اتخذوا تدابير خاصة لتلاميذ الباك فاكتروا لهم فيلا كمبيت ووضعوا على ذمتهم منظفة وأفردوهم بطاولة خاصة في المطعم وكان هناك عنصر غير قابل للضبط منذ إضرابات التلاميذ سنة 1981 هو أنا ...لذلك ومنذ شهر سبتمبر قال لي سي محمد السعودي (الجماعي)أنت لن تكون في المجموعة دبر رأسك وحدك... كانت نتائجي في السنة الخامسة والسادسة توحي بأني تلميذ فاشل. (وسي محمد يسالني مغرفة) إذ طلب مني في مفتتح السنة السادسة أن أكون قيما تلميذا وأعينهم في مراقبة فصول المراجعة الليلة في المبيت فقلت له الكلمة التي قلبت مزاجه رغم أنه رفيق أبي في العسكرية (سنتي 56و 57) وبينهما مودة(ما نقبلش نكون قواد حاكم) وكانت كلمة الشؤم ...إذ وضعني بين ناظريه وطاردني كعدو.
لقد أطردت من المبيت دون وجه قانوني وبدون ورقة أو مجلس قسم. إقصاء غير قانوني ساهم فيه سي القناوي المحجوبي القيم العام الخارجي(رحمه الله) والناظر سي محمد شرف الدين. ولم يدافع عني سي الطاهر الزوائدي أستاذ العربية الذي كان يضع نصب عينيه أن يكون معتمدا.
اعتمدت على نفسي بصبر لم أعرف مصدره سوى الغل والقهر نظفت غرفة أبي في حوش جدي في حومة الدبدابة (ونظفت القازة والبابور وفرشت نطعا على حصيرة وتدبرت لوحات على ياجورات كطاولة واجتهدت) كل ليلة أنظف القازة بقماشة وأصب القاز الأزرق وأبكك مقرونة على البابور بماء وملح وهريسة وخبز من حانوت سي مختار بالعيساوي وأتوكل وعندما يفيق جدي لصلاة الفجر يجد قازتي مضاءة وأنا مكبي على اللوحات (كانت زوجة جدي تملك أن تمد لي خيط كهرباء بمسافة عشرة أمتار فقط لكنها منعت جدي من ذلك وهذا حديث عائلي)…
كانت نتائجي ضعيفة في كل ما يكتب من اليسار إلى اليمين وكنت أعوض بما يكتب من اليمين إلى اليسار واضطهدني سي احمد لعماري أستاذ العلوم (مادة اختيارية) بأصفار أطول من قطار موريتانيا.
عندما تحسن طقس الربيع اتخذت دراجتي للعودة إلى قريتي على بعد 20 كيلومتر أسوقها عشية واركبها أحيانا في النقل الريفي إذا صادفني ولكن لم أغب عن درس أبدا.
أيام الامتحان رأيت نظرات الاحتقار من إدارة المعهد وكانت توقعاتهم أني لست من قائمة الناجحين الذين اكتروا لهم الفيلا الخاصة للدراسة في ظروف ملائمة.
كان التواطؤ في مراقبة الممتحنين جليا لكني لم استعن بأحد كان ضعفي الفادح في اللغة الانجليزية. وكان في القاعة تلميذ يتقنها لكن مرر للجميع إلاي وخرج يتباكي من القاعة قائلا انه لم يظفر بإجابة (وهذا جملة موجهة له لأنه يتجسس على صفحتي).ويعيش بعقدة نور الدين (وهذه الجملة ستجعله يقاطعني حتى يموت أحدنا).
وعندما نزلت قائمة الناجحين في الدورة الأولى كنت فيها وقال الجميع العلوي ينجح؟؟؟ مستحيل. لم يكن معدلي مبهرا لكني مررت من ثقب الإبرة وعشت وثابرت وبكيت من قهر طويل.
رفضت مصافحة التهنئة من الذين اطردوني من المبيت وقلت لأحمد العماري وقد نلت أفضل عدد في العلوم (07 من عشرين بينما نالت محظيوه أصفارا باهرة) أن من أصلح لي أفضل منك ورفضت بمضاء قاطع نصائح سي الطاهر المعتمد الدستوري لاحقا أستاذ العربية يوم التوجيه وهو ينصحني بشعبة الآداب العربية. وواتني جملة مغرورة في حينها واعتز بها حتى اللحظة (العربية في دمي لقد اخترت علم الاجتماع). ومضيت بتصميم يفلق ...وبكيت ليال طويلة ..لا يحصيها إلا الله.
عندما نشرت روايتي الأولى وصل خبرها هناك ..فزدت لبعض من يرد الخبر لسي الطاهر ستكون نصوصي في البرامج المدرسية ولن تنال شرف قراءتها. لم تدخل بعد لأن متفقدي العربية من الشبيحة منعوا ذلك في اجتماع متفقدي المادة في القيروان وهذا كان في زمن التجمع (وعندي شهود على الفجرة) وهي قصة أخرى. هذه انتصارات فردية صغيرة لكنها زودتني دوما بشحنة غضب كتبت بها الروايات الثمانية المنشورة (كتبت نصوصا أخرى لم أرض عنها فلم أنشرها) وأكمل بها الخماسية القادمة وكتبت بها أطروحتي وربيت بها ولدي وابنتي.
لست عنترة بن شداد لكني واحد من الناس ولم أبذل من عرضي أبدا للأوغاد. سأموت على هذا ...من رغب في صحبتي فقلبي له وجاء ومن ظن بي ..فليشرب بولي ...أنا..أنا ..بكل تفاصيل معاناة الفقير الذي عاش بشرف ..وما رشفها لحد .............
في الطريق إلى اللحظة تدربت على أقسى عبارات البذاءة ...وانتصر على كل من لا يستعمل يديه في العراك …