هل انتهى حفتر في ليبيا؟ يطرح هذا السؤال مواطن عربي ينتمي للربيع العربي ويعتبر حفتر مكيدة ضد الربيع العربي، ولذلك ينبه القارئ إلى أن في السؤال كثيرًا من الرغبة وقليلًا من التحليل، خاصة في ظل تضارب الأخبار التي تخضع بعد لمنطق المعارك الإعلامية المحيطة بالحرب الدائرة على التراب الليبي.
ربما يعاد السؤال بصيغة مختلفة: هل أجهز كورونا على حفتر وأنهى دوره بعد انشغال مموليه بمقاومة الوباء في بلدانهم؟ آخر الأخبار القادمة من ليبيا في الأسبوع الثالث من أبريل 2020 تتحدث عن اندحار حفتر من الغرب الليبي، لكن هل هو اندحار النهاية أم أن للحرب ردة أخرى؟
لم يكن حفتر شيئًا مذكورًا
كان هذا مكشوف منذ البداية وكان العالم يعرف وتصله أخبار قتلى جيشه فنجدهم من كل فجاج الأرض، وكان العالم يشاهد الطيران الإماراتي والمصري والأردني يخرب ليبيا لصالحه ولم يكن حفتر إلا غطاء لتخريب الثورة الليبية، ووقف معه كل أعداء الربيع في كل قطر عربي أخذ على نفسه مهمة التخريب بما في ذلك شراذم سياسية من بقية نظام بن علي وحزامه السياسي القومي واليساري الذي دحرته الثورة في تونس، فظل يبحث عن واسطة تخريب خارجية بعد أن عجز بقوته الخاصة وقد سميناهم المنتصرين بغيرهم.
حفتر يندحر وأنصاره في الخارج (أو بالأحرى مستعملوه) مرتبكون ويستشعرون انقلاب الموازين ضدهم، وقد يكون هذا أخطر ما أصابهم من وباء كورونا، فقد نجت أجسادهم حتى الآن لكن حساباتهم السياسية ورهاناتهم على هزم الربيع في ليبيا تمهيدًا لتدميره في تونس تبوء بفشل كبير.
انهيار أسعار النفط وانقطاع التمويل
لقد انهارت أسعار النفط بفعل الركود الاقتصادي وانخفاض الطلب فانقطع التمويل الإماراتي والسعودي (يوشك التمويل أن ينقطع عن عسكر مصر أيضًا)، لكن حتى الآن نتابع انقطاع المدد المالي وتوقف تسليح ميليشيات الغرب الليبي التي تعيش من هذا التمويل، فتخلت عن مناطق نفوذها لصالح طرابلس فانقطع ذكر حفتر من الغرب الليبي، ولم يكونوا إلا مرتزقة صغار عن مرتزق أكبر وقد توقف المستخدم عن التمويل.
إلى جانب ذلك فإن انشغال المحرك الرئيسي لحفتر أو القائد الحقيقي للحرب أي فرنسا الاستعمارية بأمر الوباء في الداخل دفعها إلى نوع من الانكماش، خاصة أن دورها كان دومًا التحريض والتزويد بالخبرة العسكرية دون دفع كلفة الحرب الموكولة للممول الخليجي، فلما وجدت أن عبء التمويل قد يقع عليها وهي التي تتهيأ لركود اقتصادي كبير ضحت بالحليف أو الحلفاء.
في الأثناء يتقدم الأتراك على الأرض بفضل خبرات عسكرية واستخبارية مطمئنين إلى الحليف في طرابلس وقد راهنوا على كسب المعركة (وتجريب سلاحهم الجديد في الأثناء)، ويبدو أن سلاحهم يحسم المعركة جوًا وأرضًا، والتركي لا يخفي رغبته في الثأر من فرنسا والخليجيين الذين كبدوه الكثير في سوريا، ولم يكن خافيًا على أحد أن التركي يحارب في ليبيا كجزء من تفاوضه مع الروسي في سوريا، والريح الآن في أشرعته وعينه على السوق الليبية وربما يكون قد أعد خطط إعادة الإعمار كأي دولة قوية تملك رساميل سريعة الحركة.
تونس ضريرة في قاعة سينما
أو هي "الأطرش في الزفة" كما يقول أهل مصر، فيصف وزير دفاعها الجديد قوات الحكومة الشرعية على حدوده بالميليشيا ويتوسط رئيسها لإنقاذ جهة خاسرة من اندحار حفتر (لم يتم التعرف إلى طبيعتها بعد)، بعد أن كان رئيسها قد أعلن الحياد في معركة على حدوده وتهدد أمنه واقتصاده وعمالته التي بقيت في ليبيا تحت القصف.
الوضع في ليبيا يفلت من كل تقدير عقلاني سياسي في تونس، وتنجلي المعركة عن رابح على حدودنا بعد أن أعلنا له العداء، بما يحمل البلد كلفة إضافية هو في غنى عنها لما يعانيه من ركود اقتصادي فاقمه وباء كورونا، ولو بقي الرئيس وفريقه على الحياد المعلن في بداية توليه لكان الأمر قابلًا للمعالجة، لكن أن ينحاز ضد المنتصر ويناصر المهزوم المدبر فهذا لا يدخل في باب الذكاء السياسي، بل يكشف جهلًا فاضحًا بالتكتيك والإستراتيجيات.
المنتصرون بحفتر في تونس يرفضون الإقرار بنتائج الحرب على الأرض، ويرون هزيمة قادمة، فيهربون منها إلى وهم انتصار لا دليل عليه في المستقبل، لأنهم يفتقدون قبل كل شيء إلى قراءة حصيفة في مآلات الاقتصاد العالمي بعد كورونا.
لا نرى لدول مثل فرنسا أو إيطاليا أو حتى الولايات المتحدة وروسيا قدرة على تمويل حرب بلا أفق في بلد مثل ليبيا، لذلك فإن تخليهم ورضوخهم للشرعية هناك صار أمرًا مفروغًا منه، بما يعني أن الوضع الليبي يتجه إلى نوع من الاستقرار لصالح الشرعية التي يقرون بها رسميًا ويحاربونها فعليًا، وإذا كان الكبار يهربون فكيف بأمر الصغار يحاربون مع المنهزم؟
يبدو أن هزيمة حفتر والوضع بعد كورونا سيحدث تغييرًا سياسيًا عميقًا في تونس أيضًا، وما جرى في هذه الأيام من مواقف وما اتخذ من سياسات ستكون له عواقب في تونس.
هناك شعور بخديعة في تونس تعرض لها الشعب التونسي ستتضح مع الأيام، فالرئيس الذي وصل إلى سدة الحكم بفضل الربيع العربي وبجملة زلزلت مشاعر الشعب (الخيانة العظمى) ينحاز إلى أعدائه ويتفاصح بلغة القانون إلى حد الوقوف ضد الشرعية الدولية، وسيكون لهذا ثمن قاسٍ جدًا على المنتصرين بحفتر، "لقد قاسوا بمنحرف" كما قال الشاعر التونسي الكبير جمال الصليعي.