يـطيب لي (على طريقة صباح الجزائري في المسرحية) أن أهنئ الشعب التونسي بذكرى ثورته، لكني لا أرى الشعب التونسي سعيدا بثورته، بل إن عبارات الضجر واليأس هي الغالبة على حديثهم.. ليس بين يدي سبر آراء يُحتكم إليه في الغرض، لكن أحاديث الطريق لا تكشف روح شعب ثائر يأمل في المستقبل.
ما زال الكثير من التونسيين يعتقد بأن هروب رأس النظام كاف لإعلان الانتصار، وإعادة الاحتفال بذلك كل 14 كانون الثاني/ يناير، ولكن هذا الاحتفاء بسقوط الرأس يتعمد إغفال بقاء جسد النظام حيا، ويقاوم كل المحاولات لإنفاذ مطالب الثورة، بل في أجواء انعدام الثقة بين الأحزاب والناس، وهي خاصية تونسية سنعود إليها.. يصبح الاحتفاء محاولة ركيكة لإخفاء التواطؤ مع النظام لإفراغ الثورة من مطالبها.
يقول المحتفلون إن خطاب الإحباط والتثبيط تروجه بقايا المنظومة المفككة، وهي التي تتباكى على ابن علي وعهده السعيد. وهذا صحيح في جانب منه، ولكن في هذا أيضا إخفاء لفشل المتحمسين للثورة الذريع في إدارة البلد للخروج به نحو أفق تنموي مختلف يستجيب لانتظارات الناس من الثورة وضمن الوطن.
توجد حالة هروب من المسؤولية أمام هذه الاستحقاقات، والجميع هنا مدان بنفس القدر، وهذه زاويتي في النظر إلى الثورة وذكراها.
تحديد المسؤوليات
من الذي سرق الثورة من شهدائها وشعبها؟ نعم لقد سرقت الثورة حتى الآن، وكل يوم يمر يبتعد البلد عن مسار النهوض من كبوة اقتصادية كاسرة؛ هي مجموع إرث ابن علي. وفشل من استلم البلد من بعده، سواء كان في الحكم أو في المعارضة. لقد اشتركت جميع مكونات النخبة السياسية في هذه الجريمة المنكرة، ولا يمكن تبرير ما فعلت النخب بالثورة.
لقد تبين منذ الوهلة الأولى أن الصراع الأيديولوجي بين اليسار والإسلاميين هو سبب الفشل، وهو الذي لا يزال يقود كل المواقف ويحدد الأفعال، فيودي بالثورة. لقد كان ذلك هو المدخل الذي عادت منه المنظومة للتحكم في كامل المشهد، مستعملة خبرتها في إثارة النعرات الأيديولوجية التي حكمت بها قبل الثورة.
ولكن كل خبرتها لم تكن لتنتج شيئا مذكورا لولا الاستعداد الغريزي للوقوع في فخ هذا الصراع والعيش منه، فالمسؤولية تقع أولا على الأداة الغبية لا على من يستعملها. كل محاولة لقراءة المشهد خارج هذا الصراع المدمر لا تكشف لنا سبب الفشل.
هذا الصراع فكك اعتصامات تصفية النظام (القصبة 2)، وهو الذي مكّن للجنة ابن عاشور لتحدد شروط الانتخابات ما بعد الثورة، وهو الذي حطم نتائج انتخابات 2011 وكسر حكوماتها، وهو الذي أطلق يد النقابات في مطلبية خارج كل وازع عقلاني ووطني، وهو الذي لا يزال يخرب كل اتفاق على الحد الأدنى السياسي للخروج من حفرة الفشل الاقتصادي الذي تردى فيها البلد. ولكن هل يمكن وضع حد له؟ الإجابة هي: لا كبيرة وصارخة.
هذا الصراع يخرب تونس ويخرب ثورتها، ويبث أكبر قدر من الإحباط بين الناس، وإن تجاهل الكثيرون خلفياته ونتائجه. لقد تحول الصراع على الثورة منذ البداية؛ من موقع كيف نحقق أهداف الثورة، إلى موقع كيف نمنع الإسلاميين من المشاركة في الحكم. بل إننا نذهب إلى القول إلى هذه المعضلة قد نقلت بكل خلفياتها من مرحلة ما قبل الثورة إلى ما بعدها، وبقي وضع البلد على حاله؛ كأن لم تحصل فيه ثورة.
هل حزب النهضة هو المسؤول عن هذا الوضع؟
بالنظر إلى أن حزب النهضة قد تصدر للقيادة بحكم نتائج انتخابات 2011، فهو الذي يتحمل مسؤولية الفشل الحالي.. هذا مدخل مغالطي؛ كان يجب أن يسبقه سؤال بسيط: لماذا وُجد حزب إسلام سياسي في تونس؟ بالتزامن مع سؤال آخر يوازيه في الأهمية: لماذا وجدت مجموعات يسارية في تونس (السؤال يشمل كل البلدان العربية انفردت أو تجمعت).
البداية من هنا.. لقد ظهرت هذه التيارات الفكرية والسياسية لأن هناك سؤالا قديما طُرح ووجبت الاستجابة له: كيف ننهض ونتقدم؟ وجاءت الاستجابات مختلفة من اليسار والإسلاميين. وفي الوقت الذي كانت فيه الأنظمة عاجزة عن الإجابة الحاسمة في المجال الفكري، كما في المجال السياسي، فإن الوضع الأقل إزعاجا لها كان دفع هذه التيارات إلى حالة صراع دموي إقصائي، وظلت تضرب بعضها بالبعض فتفشل جميعها. وقد أفلحت في بث شقاق أزلي كان من نتائجه الوضع التونسي (العربي) الحالي.
إذا أحسنا الظن بقيادات هذه التيارات، وهو مجاز غير واقعي (إفراط في التفاؤل)، فإن المنطلق واحد، ولكن النتيجة مختلفة. لقد بنت التيارات رؤى مختلفة للمستقبل، ولم تسأل نفسها عن جذور الخلاف، بل عالجت الأمر بالإقصاء المتبادل (بتحريض من الأنظمة) الذي يعدم كل تقارب أو حوار على الأهداف البعيدة التي تمهد لاتفاقات في الحدود الدنيا. ولم يبق الصراع بين مكوناتها الحزبية المحدود العدد، بل إنها جرّت كل البلد (البلدان العربية) إلى صراعاتها، وضحّت بالدولة نفسها من أجل استدامة الصراع والتنافي وهنا فشل الثورة.
الفائز في الانتخابات، كما الباقي في المعارضة، تآمر على الثورة واستحقاقاتها، دون الإقرار بالعجز عن الحوار والتجاوز الشجاع الذي يعني العودة إلى السؤال الأصلي أو المنطلق الوجودي: كيف ننهض ونتقدم؟
لا تنتبه هذه التيارات إلى أنها تتقاسم أفكارا كثيرة حول المستقبل (الخطاب المعلن) يمكن أن توحد عملها السياسي؛ دون الوصول ضرورة إلى تحالفات دائمة، بل ما يمكن نعته بالتوافقات الانتقالية المؤقتة التي تسمح باختلافات لاحقة على برامج تنموية، ليس منها التنافي السياسي.
مناخ الحرية نعم.. ولكن
يقول الفرحون بالثورة: لقد كرّسنا مناخ الحريات: وهذا سبب كاف للسعادة، بل هو أساس البناء للمستقبل، ولكن وجب التنسيب العقلاني لِكَمِّ الحرية الذي لا ينتج تنمية. ولا مناص هنا من المقارنة بالتجارب الديمقراطية الغربية السابقة على تجربة بناء الديمقراطية؛ في بلد عانى الاستعمار والدكتاتورية لعقود طويلة ويجرّ ميراث انحطاط تاريخي قديم لا يزال مؤثرا رغم بعد الأسباب، حيث نجد أن مناخ الحريات يسير بالتوازي مع التنمية الاقتصادية.
في تونس ينعش مناخ الحرية السوشيال ميديا الكسولة، ولكن الفساد استفاد منه أكثر، فأفلت البلد عن كل رقابة قانونية وسياسية. بل إن الفساد يكرس الحرية للإفلات من العقاب، حتى صارت الحرية عبئا ثقيلا على من يرزح تحت الفساد. يعتقد الفرحون بالحرية أنهم وحدهم من يتمتع بها، وهذا يكفيهم لكي لا يروا الفساد يسبقهم في ذلك.
هنا يدان الجميع.. لا فرق بين اليسار والإسلاميين، وهنا تتحدد المسؤوليات ويتحدد مستقبل الثورة. الجميع وضع يده في يد الفساد منذ البداية، وروّج لخطاب ثوري نقي فيما هو يلِغ في دم الشهداء، وينافق الشارع العاجز عن الحسم؛ لضعف في الوعي ناتج بدوره عن حشر الصراع في الخلاف الأيديولوجي.
في احتفاليات الثورة يواصل الجميع التغني بنقائه الثوري، فيما الشارع يرى مظاهر الفساد تتسرب إلى الأحزاب والقوى "الثورية". وما زال الصراع يدور حول كيف نقصي لا كيف نتعاون، وهنا بالذات تنعدم الثقة في المستقبل.
في مناخ الحريات سنكتب بإصرار أن مناخ التنافي السياسي بين اليسار والإسلاميين سيستمر، وسيخرب الثورة أو ما تبقى منها أكثر فأكثر، وستدور انتخابات 2019 في نفس الأجواء وبنفس الشروط التي دارت فيها انتخابات 2011 و 2014، وسيفتح الباب أمام المنظومة لتعيد ترميم صفوفها، وهي تفعل الآن بجدية كبيرة وراء يوسف الشاهد.
لقد فشلت صيغة النداء (كاسم جديد لمنظومة ابن علي) في البقاء دورة أخرى، لكن هذه المنظومة تملك من القوة والقدرة ما يسمح لها بتغيير وجهها الآن وراء مسمى جديد، هو حزب يوسف الشاهد الذي يعقد الاجتماعات التمهيدية لحزبه بنفس الوجوه التجمعية التي أسست النداء في الجهات.
إن الأفعى تغير الآن ثوبها رغم الطقس الشتائي، وسنجد الإسلاميين بعد انتخابات 2019 يبحثون عن توافق معها بمبررات الخوف من الاستئصال اليساري (وهم يفعلون منذ الآن)، وسنجد اليسار يراود المنظومة ويعرض خدماته بشرط إقصاء الإسلاميين (وهم يفعلون منذ الآن)، لتخرج المنظومة وحدها رابحة؛ تمجّد الحرية وتكرس الفساد. في هذا الوضع يعسر علي التفاؤل بالثورة، أو المشاركة في احتفاليات التكاذب الجماعي باسم الثورة.