من رائحة مرقه يمكن تحديد نوع العشاء مثل تونسي يضرب عادة لمن تكشف مؤشرات بسيطة فقر مشروعه(طعامه). الرائحة الأولى تكفي لتكشف أن العشاء فقير وأن على الضيف تدبر أمره قبل المبيت جائعا. نستعين بهذا المثل لنكشف فقر الوجبة التي سعت الثورة المضادة لتقديمها بديلا عمن أوصلته الانتخابات إلى السلطة بعد سنة 2011 وأعني هنا حزب الحرية والعدالة (الإخوان) في مصر والنهضة وشركائها (الترويكا ) في تونس. فقد سعت المضادة لإسقاطهم بدعوى الفشل الاقتصادي ولكن ما نراه يقدم اليوم أفقر بكثير مما كان يقدم قبل الثورة على قلته. فما سبب هذا الفشل وما تداعياته الآن ؟
لنستبعد نظرية المؤامرة أولا.
استسهل الكثير من أعداء الثورة التحليل بنظرية المؤامرة التي دبرتها الدوائر الصهيونية والمخابراتية لإسقاط الأنظمة العربية الوطنية. واستعملت صور برنار ليفي في ليبيا وماكين في سوريا حجة بليغة على أن الغرب (مجملا لا مفصلا) يحارب الأنظمة الوطنية التي خدمت شعوبها.
وسهَّل ذلك علي القائلين بها الاصطفاف ضد النتائج التي أفرزتها الانتخابات باعتبار أن الناجحين فيها (الإسلام السياسي) هم وسيلة اختارها الغرب(الاستعماري) لمزيد تفتيت الأمة وقهرها لمصلحة الصهيونية. واستعيد بذلك خطاب الاصطفاف القديم حتى أن بعضا ممن قادة ثورة تونس ميدانيا ارتد إلى نظرية المؤامرة ليفسِّر بها ما جرى في ليبيا ومصر والشام في حين انه يقطف سعيدا ثمرات الثورة في تونس.
نظرية المؤامرة منعت نقد الثورة المضادة بل أصبغت عليها رداء وطنيا لأنها باعدت بين أحزاب الإسلام السياسي والسلطة. لكن ها أن نظرية المؤامرة تقف الآن عاجزة عن تفسير سبب فشل الأنظمة العائدة (في مصر وتونس واليمن) في طرح بدائل تنموية فعالة تنسي الناس حكم النهضة في تونس والإخوان في مصر. العجز الآن ماثل للعيان في كل المجالات ومواصلة تفسير ذلك بالمؤامرة الخارجية على أنظمة وطنية لا يقنع أحدا في الداخل فالغرب (مجملا لا مفصلا) يقف بقوة مع نظام السيسي ونظام نداء تونس ويجبر الناس على الخضوع لهما بقوة القرض المالي والتهديد السياسي.
إن القائلين بالمؤامرة يستبعدون أنفسهم من موضع استشراف ما يجري وتوقع مآلاته ماداموا ينطلقون كما فعلوا دوما من اصطفاف إيديولوجي يقدم تصفية الخصم المحلي (الإسلامي) على خدمة شعوبهم ضمن سياق وطني يشتركون فيه مع قوى الداخل الوطني والتي منها بالضرورة الإسلاميين.
الفشل المعلن .
على إيقاع الانقسامات والتشتت في حزب نداء تونس تصل أخبار مصرية تعلن فشلا ذريعا لنظام العسكر المصري الذي عاد إلى السلطة بمذبحة رهيبة لم يعرفها تاريخ الأنظمة السياسية العربية إلا في حماه السورية تحت حكم الأسد الأب. وكانت الحجة المعلنة للانقلاب والعودة هي فشل الإخوان في حل مشاكل مصر الاقتصادية العويصة. وأمل الناس البسطاء خيرا من ذلك وسكتوا لمدة سنتين على دموية الانقلاب طمعا في خيره ولكن الانقلاب فشل في تقديم حلول فعلية لمشاكل مصر الاقتصادية خاصة. فالضنك المادي الذي عاشته الطبقات المسحوقة أجلت دوما مسائل الحريات العامة وقالت بأولوية العيش المستور. هذا الستر(الكفاف) لم يتيسر للانقلاب على الرغم مما يحصل عليه من أموال خليجية وغربية لإسناده (لا أحد هنا يتحدث عن مؤامرة على الديمقراطية الناشئة من أنظمة النفط العميلة).
حزب النداء بدوره بنى خطابه الانتخابي على إمكان تحصيل الرفاه وتجاوز فشل النهضة وشركائها. مع إدخال شحنة وجدانية دفاعا عن نمط التحديث الذي بلورته دولة ما قبل 17 ديسمبر. بعد سنة واحدة من الحكم ظهر للناس فشل الحزب في تحقيق ما أعلن عنه. بل إن الحزب انقسم على نفسه قسمين ثم ثلاثة والناس ينتظرون مؤتمره الأول الذي لم ينعقد ولا أحد يعلم من داخله ومن خارجه إن كان سيتمر في الحكم بقاعدة شعبية مفككة وكتلة نيابية مقسمة.
الفشل السياسي واضح وجلي في النظامين والفشل الاقتصادي لكليهما لم يعد قابلا للإخفاء بحلول ترقيعية مؤقتة (لم نشر هنا إلى الحالة اليمنية ودور على صالح في تخريب الثورة ومنتجاتها الأولى). وأصدقاء النظامين قبل أعدائهما وضحاياهما يرفعون الصوت عاليا بالفشل الذريع وفيهم من يقفز من سفينتيهما قبل الغرق الأخير.إنها قصة فشل معلن منذ بداية الثورة المضادة فالذرائع لم تكن أبدا مقنعة حتى لأصحابها ولكنه صراع مصالح بين قديم متكلس وجديد ناهض وإن لم يبتكر بدوره بدائله بسرعة ودقة.
الفشل يعيد إنتاج نفسه.
لم تسقط المنظومات القديمة لأن مؤامرة خارجية رتبت ذلك وإن لم يكن مستبعدا وجود رغبة من الخارج في تغيير المشهد بغاية إعادة تزيينه وتسويقه لنفس الشعوب الخاضعة منذ نصف قرن لنظام عربي ميت سريريا وإن كان يملك أدوات قتل جيدة. لقد وصلت منظومات الحكم قبل 17 ديسمبر 2010 إلى نهاية قدراتها على الأداء(حتى ملَّ منها رُعَاتها). مناويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي استعملتها استنزفت حتى آخر قطرة ووقفت على حافة الإفلاس.
الاقتراض لصرف الرواتب أربك ميزانيتها وضاعف إحجام المديونية عبر خدمة الديون بأثقل من قدرات الاقتصاديات على الرد وأعمال المناولة الاقتصادية مع الشركات الكبرى وضعت النجاح الاقتصادي المحتمل في تناقض فجٍّ مع الطّلب الاجتماعي على الخدمات العمومية (التعليم والصحة والبنى التحتية) فعجزت هذه المناويل على التوفيق بين فعل المناولة طبقا لشروط الشركات الكبرى وبين الحاجات الأساسية لشعوبها. لم تعد هذه الدول تملك امتيازات تنافسية مع دول مثل النمور الاسيوية والصين الصاعدة. وحتى خدماتها السياحية المنخفضة الكلفة تراجعت بحكم تعدد الوجهات وتطور طلبات السائح الغربي. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه أحجام البطالة ترتفع والطلب على الصحة والتعليم يتضاعف كانت هذه الدول تضطر إلى سياسات تقشف قاسية جدا. ولم تنه سنة 2010 إلا وهي في أسوء حالاتها لذلك وجدت كلمة الثورة صدى سريعا وانفجر الشارع المحتقن في وجهها وانهارت بأسرع مما كان الشارع نفسه يتوقع. لكن لماذا عادت؟
عادت المنظومات الفاشلة لأن الثورة لم تجهز عليها .لا بالعمل الثوري في الانطلاق ولا بالمنوال التنموي المقترح بعد ذلك. لقد كانت الثورات طيبة أكثر مما ينبغي للثورات. لم تصادر ولم تقتل ولم تحسم في مواضع الحسم. لكن هل حققت المنظومات بعودتها نقلة تنجيها من الأزمة التي أدت إلى إسقاطها في المرة الأولى. هنا مرة أخرى نكتشف أن هذه المنظومات (تونس ومصر خاصة) لم تعد قادرة على الاستمرار لأن مشروعها الوحيد هو العودة إلى ما قبل 2010 وإعادة تدوير الحلول القصيرة الأمد (الاقتراض والمناولة). إنها نسخة كربونية على نظامي مبارك وبن علي. بعد تقلص قدراتهما على القمع المنهجي. لم يعد لهذه المنظومات ما تقدمه ويستوي في ذلك كل بلدان الربيع العربي المغدور.
لكن لا بد من التنبيه إذا كانت المنظومات العائدة البائدة عاجزة عن التطور فيجب أن نعي أن البدائل غير جاهزة وأن النخب التي عارضت قبل الثورة وفشلت بعدها في الحكم لم تجهز نفسها بعد ولا تبدو لي قادرة على ذلك في الراهن على أن تحكم ولو قدم لها الحكم هدية في طبق.
إنه فشل عام سببه التفقير والتصحر السياسي والفكري والبرامجي الذي صنعته الأنظمة منذ نشأتها ولكنه أيضا نتيجة لحلاوة الاستسلام في الصالونات النخبوية وانتظار المعجزة أو الاتكاء على نظرية المؤامرة. إمام فشل المنظومات العائدة لرسكلة عشاء بارد نشم رائحة عشاء فقير في مطبخ النخب التي تعارضها وليس على المرء إلا أن يسعى في اجتناب المسغبة.