صوّت البرلمان التونسي يوم الرابع من شهر مايو/ أيار 2021 للمرة الثانية على القانون المنظم لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، بعد أن أعاده الرئيس لقراءة ثانية. وكشف التصويت عن ترابط المجموعة البرلمانية التي صوتت له في المرة الأولى، فتم تجميع 141 صوتًا والقانون الآن بين يدَي الرئيس للمصادقة في أجل أقصاه يوم الثامن من الشهر الجاري. وليس له بحسب قراءة مجمع عليها من كل الخبراء الدستوريين إلا خيار المصادقة، ولكن كل التوقعات تذهب إلى أنه لن يصادق على القانون وسيدفع الأزمة الدستورية والسياسية إلى مدى أبعد، دون أن تنكشف للناس خطته السياسية من وراء رفضه المصادقة في المرة الأولى وربما في المرة الثانية، وكل ما بين أيديهم الآن أماني خائبة ألا يفاقم الرئيس الأزمة، فالبلد لم يعد يحتمل المزيد خاصة وقد ذهبت الحكومة للاقتراض (والأحرى أن نقول التسول) على عتبات البنك الدولي.
تبقى لدينا أسئلة كثيرة في قاعة انتظار سيادته بشأن ماذا يريد من رفضه حل الأزمة الدستورية؟ ولماذا يصر أنصاره على التصعيد ضد البرلمان وضد الحكومة وهم يرون حالة التردي الاقتصادي والاجتماعي التي تلتف على رقاب الخلق؟
ملاحظات مهمة في السياق
التعديلات التي اقترحت على النص الأول لقانون المحكمة الدستورية تقدم بها حزب التيار الديمقراطي، فوافق البرلمان على مناقشتها وصادق عليها، ولكن الحزب الذي اقترحها عارضها لاحقًا بكل شدة، محتميًا ببقية أعضاء الكتلة الديمقراطية التي منها نواب حركة الشعب (حزب قومي ناصري). وكان هذا الموقف مثيرًا للاستغراب، فقد تحجج الحزب والكتلة أثناء النقاش وبخلاف مبررات طلب التعديل بأن انتخاب الأعضاء (الثلاثة في صورة المصادقة سيكونون من نصيب حزب النهضة)، وهذه حجة واهية فحزب النهضة لا يملك ثلاثة أخماس البرلمان، والذين صوتوا لتعديل القانون لا يصوتون بالضرورة على الأعضاء أنفسهم، فلكلٍّ هواه وميولاته، ولكل وسيلته للضغط ليقدم أعضاء يراهم صالحين لعضوية المحكمة.
وحتى إذا افترضنا بكل سوء نية وجود اتفاق سري (متآمر) على تقديم نواب من حزب النهضة، وهو احتمال ضعيف وافتراض مستحيل، فإن النواب الثلاثة (سبق تصعيد نائبة من حزب النداء في الدورة البرلمانية السابقة) لن يكون لهم وزن في التصويت على قرارات المحكمة، لأن الرئيس لا يزال يملك حقه كاملًا في تعيين أربعة أعضاء على هواه، والمجلس الأعلى للقضاء يملك بدوره حق تصعيد أربعة أعضاء، وهذا المجلس لا يخضع لحزب النهضة، بل ليس للنهضة عليه أي نفوذ. فلماذا إذًا تم وضع هذا الأمر في النقاش؟
التفسير المنطقي الوحيد هو أن معارضي التعديل وخاصة الذين اقترحوه ونكصوا عنه، رغبتهم هي تمطيط الأزمة وتقديم ذريعة للرئيس لكي يواصل تعنته. إنها حالة من الاستثمار السياسي في الأزمة ضمن أجندة باتت واضحة، لكسر فعالية البرلمان وجعله عاجزًا عن التأثير في اللحظة السياسية المعاشة. ولذلك وجدنا رافضي التعديل يلتقون جهرة مع حزب الفاشية الذي يستهدف البرلمان منذ يوم دخوله وليس لهم أجندة أخرى غير كسر سلطته، وقد صوتوا معًا لرفض التعديلات.
حركة الرئيس متناقضة في حججها
برر الرئيس رفضه المصادقة في القراءة الأولى (عبر الرسالة الكاريكاتورية التي صارت نكتة عالمية) بأن أجل انتخاب أعضاء المحكمة قد فات، وبالتالي إن كل تعديل للقانون هو عمل غير دستوري (بحكم انقضاء الأجل)، وهذه الحجة تسقط مبدأ الردّ نفسه، فهو يرد على فعل قانوني انقضى أجله بحسب تأويله للنص الدستوري، ما يجعله غير ملزم بالرد على البرلمان، وكانت الحركة الوحيدة المتماشية مع قراءته هي رمي نص التعديل في مفرمة الورق التي تتقن حاشيته استعمالها. أما وقد رد ردًّا دستوريًّا على فعل دستوري انقضى أجله (أي غير دستوري) فقد ناقض نفسه. وهو ملزم الآن بالرد على القراءة الثانية وسيحاول البحث عن حجج جديدة ليصف فعل القراءة الثانية بأنه غير دستوري، وإلا يكون كمن حشر إصبعه في عينه.
وبحسب التأويل الشكلي للنص الدستوري، فإن انتخابات عام 2019 التي أصعدت الرئيس كانت غير دستورية بدورها بحكم انقضاء الآجال التي يتذرع بها، والبرلمان الحالي الذي أقسم أمامه اليمين يعتبر غير دستوري، لأن برلمان 2014-2019 لم يستوفِ المهام الموكولة إليه ومنها المحكمة، ما جعل ما بعده غير دستوري بما في ذلك انتخاب الرئيس.
ليس للرئيس الآن حجة مقنعة فقد تم انتخابه ضمن اجتهادات دستورية رضيها وسلم بها ثم انقلب عليها بتأويله الخاص، الذي خالفه فيه كل فقهاء القانون الدستوري، وخاصة أساتذته القدامى بكلية الحقوق.
الرئيس ضد الدولة؟
سافر في أول شهر مايو/ أيار وفدٌ وزاري يقوده وزير الاقتصاد إلى واشنطن، ويبدو أنه التقى الرئيس بايدن والأخبار الواردة تقول إن الولايات المتحدة قد منحت تونس هبة قدرها 500 مليون دولار موجهة لتحسين البنية التحية في مجالات النقل والمياه وغيرها، أي هبة استثمارية وليست لدعم الأجور كما جرت العادة في قروض وهبات سابقة تحولت بفعل الضغط النقابي إلى أجور.
وهذه الأخبار يمكن قراءتها كحركة من الحكومة (السلطة التنفيذية الفعلية) تتجاوز فيها سلطة الرئيس، ولا تتوقف عند المعركة الدستورية (السياسية) التي يخوضها ضد الحكومة وضد البرلمان.
وظهور وزير الخارجية (المعيّن من الرئيس) في إسبانيا وحديثه عن تواصل الانتقال الديمقراطي وضرورة انتخاب المحكمة الدستورية، يصب في نفس اتجاه تجاوز الحكومة للرئيس وعدم اعتباره مؤثرًا في اللحظة. وقد راجت قبل ذلك أخبار أخرى عن خلاف بين الرئيس ووزير الدفاع (المكلف من الرئيس) حول استعمال الجيش استعمالًا سياسيًّا، وقد قرأنا أخبارًا غير يقينية (نعتمدها هنا بتحفظ شديد) عن خلاف بين الرئيس وقائد أركان جيش البر حول الموضوع نفسه، ما يوحي أن كل مكونات الدولة الفاعلة قد تجاوزت الرئيس وتتجه إلى عزله سياسيًّا. فإذا رفض قبول تمرير نص المحكمة الدستورية، فالأفق الوحيد المتبقي له هو الصمت المطبق أو قيادة ثورة شعبية ضد النظام برمته بما فيه منصبه السيادي. أي أن يتحول من رئيس منتخب طبقًا للدستور إلى قائد ثورة شعبية على كل مؤسسات الدولة. فهل يملك فعلًا هذه القوة ليغيّر النظام من خارجه؟
المرحلة منذرة بتحول عميق
الصورة القاتمة للوضع السياسي في تونس لا تبعث على التفاؤل، ولكن الثورة الشعبية التي سيقودها الرئيس هي افتراض كوميدي يساق للسخرية. لذلك نتوقع أن يتجاوز البرلمان والحكومة الرئيس بعد أن يرفض المصادقة على قانون المحكمة. ونرى أن الحرص على وضع قانون المحكمة على مكتب الرئيس يهدف إلى عزله داخليًّا وخارجيًّا أكثر مما يهدف إلى حل المعضلات القائمة. إنها سياسة إقامة الحجة على أن تلدده هو سبب الأزمة (لذلك يمعن أنصاره في التهجم على رئيس البرلمان، فالمعركة واضحة ونحن لا نكتشفها فجأة).
لا يبقى أمام الحكومة الآن إلا المرور بقوة إلى فرض التعديل المرفوض من الرئيس منذ أربعة أشهر، والشروع في العمل بهذا الدعم الأميركي الذي سيقرَأ كدعم سياسي في وقت حرج. إنها رسالة الخارج إلى الداخل أن امضوا في عملكم ولن نسمح للرئيس بتعطيل إضافي، وعلى الرئيس هنا أن يواجه بصراحة وشجاعة هذه القوة الخارجية بأطروحاته الدستورية، أو بخطاب رفض التطبيع الذي تبين للناس زيفه ومنافقته للدم الفلسطيني.
هل هذا أمر محمود أن يتدخل الخارج لتسوية الخلافات الداخلية؟ ستواجه الحكومة هذا السؤال، ولكننا نراها قادرة على احتقار من يطرحه فالأَولى طرحه على الرئيس وحزامه. فبعض الذين سيزايدون على الحكومة بقضايا السيادة الوطنية واقعون في خطيئة الخيانة الوطنية قبل الحكومة، إذ لا يمكن لطابور حفتر والسيسي وحزب فرنسا (وهم حزام الرئيس الآن) الحديث عن السيادة وهم يرون القائل بالخيانة العظمى يعلن ولاءه للعسكر الانقلابي الذي يحاصر قطاع غزة ويقتات من حصارها سياسيًّا.
لقد كانت هناك حلول أخرى ذهب إليها الشعب بفطرته يوم سمع كلمة الخيانة العظمى من فم المرشح للرئاسة، ولكنه يجد نفسه الآن مضطرًّا لاختيار الحلول الواقعية وقد محص المنافقين والمزايدين. ورُبَّ أزمة دستورية كشفت نفاقًا سياسيًّا وأعادت أقدام الناس على الأرض بحثًا عن قوت قليل. لقد عزل الرئيس نفسه بنفسه.