تتواصل الهجرة من حزب النداء إلى حزب الشاهد (تحيا تونس)، في عملية مكشوفة وخالية من كل تشويق يوهم ببناء حزب جديد فعلا، كأننا نرى برلمان تونس القادم بنفس الوجوه. فالقاعدة واضحة: مكان في حزب الشاهد مقابل مقعد في البرلمان. وآخر المهاجرين نائب عن محافظة مدنين من أصحاب الشركات؛ اشترى مقعده في برلمان 2014، وقد التحق اليوم بحزب الشاهد، ولا نشك لحظة أنه سيكون رئيس قائمة الحزب بالمنطقة.
هل نقول مات النداء في البرلمان القادم؟ أم نقول وُلد النداء في حزب جديد، وما النداء إلا المنظومة تغير جلدها في موسم يتزامن مع تغيير الأفاعي جلودها الشتوية قبل دخول الصيف؟
نفس الوجوه نفس الفعال
لا جديد إذن، ويمكن أن نقف هنا ونغلق القوس، فلا قول يوسع التحليل، ولكن لماذا لا يولد حزب جديد بقوم من خارج المنظومة؟ كيف يسعفنا علم الاجتماع في قراءة عملية تغيير المواقع والحفاظ على المكاسب؟
تدوير النخب عملية ترافق التحولات الاجتماعية في مفاصل مهمة من تاريخ جماعة بشرية، وقد حصل في تونس تحول في السطح، لكنه لم ينفذ إلى الباطن، ولذلك فلا نرى بعد عملية تدوير النخب باستبعاد المستهلك منها وإحلال الجديد محلها. فما يجري من طبيعة مجتمع لم يغير آليات عمله على نفسه. الثورة معلقة بعد، ولذلك ستعود المنظومة إلى الحكم لأنها تملك أسباب البقاء بعد.
أسباب البقاء هي أولا حيازة مواقع النفوذ المالي النخبة المالية التونسية لم تخسر مواقعها، ولا قدرتها على الفعل الاقتصادي الذي مرنت عليه، ومرانها هو مران ابن علي الفاسد. فلم يضار أحد في ثروته، وآليات العمل الاقتصادي لا تزال تعمل بطريقة ابن علي غياب مطلق للشفافية والمحاسبة.
المال يشتري المواقع، وكل ما جرى حتى الآن هو شراء المزيد من المواقع بثروة لا تزال مملوكة لأصحابها. لقد استعلمت نخبة المال القديمة وجوها جديدة أخرجت من عدم النخب الوطنية واستنزفت منها أعدادا، ولكنها لا تزال قادرة على العثور على وجوه أخرى للتغطية، والعمل من وراء ستار نخب مصطنعة مهمومة بمكاسب صغيرة وسريعة فردانية لا تبالي بمشروع ولا بثورة تغيّر النخب وتدوّر الكفاءات، بل تعمل كحواجز عالية في وجوه نخب أخرى موجودة، ولكن يكبل الكثير منها فقر مادي وقلة حيلة تنظيمية أمام الفساد المالي، والذي يعيد إنتاج الفساد السياسي، لذلك تقصى النخب في كل دورة انتخاب، ويفقد أغلبها الأمل في التغيير، فتستسلم وتنتصر المنظومة بآلياتها الفاسدة.
شتات النخبة البديلة سبب الجمود
نعجب لسعي المنظومة في الحفاظ على مكاسبها، ويحيرنا شتات النخبة التي تقدم نفسها بديلا، حتى أننا نتساءل عن جدية المعارضة القديمة، وهي الماكثة بعد في دور المعارضة زمن الدكتاتورية، وعمق نضالها من أجل تطوير الأداء السياسي المؤدي إلى تغيير عميق وفعال. إن أداءها الحالي لم يتغير، فهي تتبع سقطات من في الحكم، دون أن تقدم بديلا فعليا بالاقتراح وبالتنظيم السياسي القادر على الوصول إلى عملية استبدال نخب جديدة محل النخب المستهلكة، والتي أسقطتها الثورة وعادت بحيلها التي ذكرنا (قوة المال والمكيدة، بما في ذلك الاغتيال السياسي الذي لا يرقى إليه الشك).
لقد كتبنا كثيرا عن نوازع هذه النخب إلى الزعامة الفردانية، ونحن مضطرون إلى العودة إلى التحليل بنفس المعطى؛ لأننا لا نصل إلى فهم عجزها إلا بهذا العنصر الذاتي الذي يشتت الجهد بين زعامات كثيرة لم تجد الحد الأدنى السياسي الذي تتفق حوله. إنها تُقاد إلى فلسفة المغنم السريع من خارج مؤسسات الحكم، وأقصى طموحاتها الظاهرة في الفعل لا في الخطاب؛ هو أن تجمع فرص الغنم الفردي لا التغيير العميق الذي يتجاوز مصالح الأشخاص، إلى مصلح وطنية تؤسس لقطيعة فعلية مع المنظومة.
بناء الكتلة التاريخية حالة مشتهاة لا خطة عمل، لذلك فأغلب الزعامات تتحدث عن ضرورة توحيد الجهد طبقا لمبادئ الثورة. ولكن على الأرض لا نجد إلا أحزابا صغيرة، وزعماء يحاكون صولة الأسود على مجموعاتهم المتحزبة، وعلى خصومهم المشتتين بدورهم.
الإسلاميون عقدة في منشار النخب
لا يقبلون بوجودهم ولا يفلحون في إقصائهم، لذلك يبذلون جهدا كبيرا في الحرب عليهم دون أن يفسروا السبب الحقيقي لذلك. القياس على الظاهر لا يعطيني فرقا حقيقيا بين نخب تزعم تملك ناصية الحداثة والديمقراطية وبين الإسلاميين.. جميعهم يناورون مع المنظومة، ويودون أن يكونوا الأقرب إليها. ويستسهل صف الحداثة رصف الإسلاميين الآن (وبعد تجربة التوافق 2014-2019 )مع المنظومة، ولكن عداءهم للمنظومة ليس جديا بقدر عدائهم للإسلاميين.
الأقرب إلى المنطق أنه تنافس على مغنم أخذ منه الإسلاميون قسطا كبيرا، فلم يتركوا لغيرهم (من المعارضات السابقة) شيئا يتسلون به. فهو عداء أقرب إلى الغيرة والحسد؛ أكثر منه اقتراح بدائل مختلفة على قاعدة حداثية.
خصام الضرائر كان تكتيكا من هندسة المنظومة، وقد كانت لها السلطة فأقصت بالقمع والتشريد الإسلاميين لمدة طويلة، ولم تفسح لغيرهم وقد صاروا من الهشاشة بمكان. الثورة فتحت إمكانية تعاون النخب الحداثية مع الإسلاميين، ولكن المنظومة عادت من الباب الخلفي الذي فتحه لها الحداثيون في صيف 2013 (اعتصام باردو)، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه سالفا. ونحن ندخل الانتخابات بنفس الصفوف المشتتة، بل المتصارعة بتدبير من المنظومة نفسها، ومهادنة نفس النخب لها، بما يعيدنا إلى سؤال غريب في السياق: ماذا نفعل بالإسلاميين وهم ركن متين من المشهد السياسي التونسي (العرب عامة)؟ هل ننتظر أن تصنفهم الإدارة الأمريكية ضمن حركات الإرهاب ليسهل تطبيق القانوني المحلي عليهم؟
لقد تراجعت الإدارة الأمريكية عن ذلك، فما العمل وقد أمل كثيرون أن يمضي ترامب في خطته إياها؟
يعود البعض إلى التحليل بالإرجاء، فيقول إن الوضع في تونس لن يتغير حتى يسقط صف الثورة المضادة العربية، من عسكر مصر إلى مال الخليج الفاسد والمفسد، ويأمل الكثيرون أن تغير الثورة في الجزائر جزءا هاما من المشهد العربي عامة والتونسي خاصة (فضلا عن الجزائري)، وهو أمل مشروع ولكنه غير ذي علاقة مباشرة بالوضع التونسي.
هذا الإرجاء أقرب إلى تبرير مهادنة المنظومة وتأجيل الحسم معها؛ منه إلى وعي بضرورة الاجتهاد محليا في بناء الكتلة التاريخية مع إسلاميين كانوا ولا يزالون من ضحايا المنظومة، رغم قربهم منها وترويجهم خطاب المحافظة على الدولة قبل تحقيق تغيير حقيقي منسجم مع أهداف الثورة.
في غياب مصالحة تاريخية بين القوى التي عارضت الدكتاتورية منذ البدء، أي بين مكونات نخبة الحداثة والإسلاميين، فإن المنظومة تملك أن تتمتع بأيام حكم أخرى طويلة ومريحة. وها هي تعد العدة لاستبدال ثوبها، فبعد التجمع تجددت في النداء، وبعد النداء تتجدد في تحيا تونس ولا فرق بين الباجي والشاهد.. إنه استبدال قشرة لا تغيير جوهر، والجميع يرى ويعلم ويناور ليبقى حيا، دون أن يفكر في أنه يعيش تحت الحد الأدنى مما يحق له.
انتخابات 2019 مرحلة أخرى من التيه؛ يقودها الفاسدون ورثة الفاسدين، ولا عزاء لصفوف الحداثة التي عاشت من إقصاء الإسلاميين ولم تبدع أية قدرة على محاورتهم، وفضلت دوما خدمة المنظومة بمقابل رخيص.