ما يجري في تونس يتطلب متابعة لصيقة ومصادر معلومات متنوعة ومطلعة. وقليلا ما يتوفر هذا لكثير ممن يحاول قراءة الوقائع المتسارعة والتي تتغير أحيانا كرياح شتوية وقد بقي كثير مما كتبنا في التسلل لظهور معطيات متلاحقة تناقض بعضها بعضا. لذلك أحاول هنا الخروج من وصف ما يجري وتأويله إلى توسيع بؤرة النظر إلى المشهد التونسي المتحول وفي كل تحول نسبة من الاضطراب تنعكس بالضرورة على محتوى النص.
أرى تونس تتجه إلى منعرج ليبرالي أخير لن يكون فيه قيس سعيد إلا محطة عابرة وقد يكون أثره الوحيد أنه إشارة الدخول في هذا المنعرج الحاد. والذي ستنتج عنه تونس أخرى تقطع مع دولة الاستقلال الأولى وربما تسهل على المغرمين بترقيم عدد الجمهوريات في التاريخ المحلي أن يكتبوا أن الجمهورية الثانية لم تبدأ مع الثورة ودستور 2014 بل مع انقلاب قيس الذي سيفتح العصر الليبرالي الجديد. ليس لأن الرجل عبقري أو يملك خطة لكنه جسر بين مرحلتين وسيسلم قياد البلد رغم خطابه عن السيادة الوطنية ليد خارجية تفكر بمنطق السوق لا بمنطق الاجتماع.
شيء من التاريخ للتذكير
استقلت تونس سنة 1956 ومكثت الدولة الجديدة تدير أمور الناس بمنطق الترقيع من دون خطة حتى تولت النقابة الشريكة مع بورقيبة الجاهل بالاقتصاد وتدبير الأموال في اتفاقيات الاستقلال سنة 63 فرض خيار اشتراكي أو اقتصاد مدولن (كان موضة فكرية دولية في حينها).
في هذه المرحلة التي قادها السوبر وزير (احمد بن صالح رحمه الله) أسست الشركات العمومية الكبرى في قطاع الخدمات (الكهرباء والغاز والنقل) وتم بناء أجهزة الدولة الإدارية (من العسكر إلى التعليم العمومي تحت شعارات التونسة). وأممت الممتلكات الزراعية التي كانت بقيت بيد الأجانب حتى ذلك التاريخ. وخاض بن صالح معركة التعاضد الاقتصادي في محاولة لتعصير الاقتصاد الزراعي لكنه فشل وأزيح من السلطة على الطريق البورقيبية (السجن والمنفى). فحل محلة الهادي نويرة سنة 1970 وخطا الخطوة الأولى في الاتجاه الليبرالي بإنشاء قطاع خاص استثماري مولته الدولة باسم التشغيلية لكنه حافظ مع ذلك على مؤسسات اقتصادية وخدماتية عمومية جعلت عشرية حكمه مقبولة رغم أنها انتهت باضطرابات اجتماعية (جانفي78).
كان هذا المنعرج الليبرالي الأول (تعايش القطاعات) الذي وصل نهايته سنة 86 بإسقاط حكومة مزالي (المحاكمة والمنفى)، وتقديم رشيد صفر الذي أمضى على اتفاقيات الإصلاح الهيكلي مع البنك الدولي وصندوق النقد (كانت الدول العربية كلها تمر بنفس الفترة فشل القطاع العام والخضوع لاقتراحات ليبرالية) غير أن (صفر) كان أعجز من أن ينفذ برنامج الإصلاح فكان انقلاب بن علي رجل الداخلية الشديد والذي سيحدث المنعرج الثاني فيفوت في مؤسسات القطاع العام ويصرف ثمنها على تنمية استهلاكية أشعرت الناس بتقدم مادي في حين أنهم كانوا يأكلون ما تبقى من الدولة الاجتماعية لبن صالح على طاولة العشاء.
استنفد بن علي مدته وسقطت خيارات الترقيع بثمن مؤسسات القطاع العام فضلا عن تحول الاقتصاد برمته إلى اقتصاد مافيوزي خلق طبقة المهربين والمتهربين من الضرائب ومن نسميهم الآن ببارونات الفساد.
الثورة كانت ردا شعبياً مضطرباً على هذه النموذج الفاشل والمخرب للدولة والمجتمع. وعلقت عليها آمال كثيرة في الإصلاح لكن من دون أن تتبين لها خطة اقتصادية واضحة فقد بقيت حكومات ما بعد الثورة سواء التي قادها إسلاميون أو معادون للإسلاميين تراوح داخل نموذج بن علي وتعلن مقاومة الفساد وتعجز دونه (الكلام الذي قيل ضد الفساد أكثر من الفساد نفسه). وكان آخر المتكلمين في مقاومته قيس سعيد وها هو يعلن عجزه في أقل من مائة يوم. ونحن واقفون الآن في آخر الطريق الذي سارت فيها الدولة حتى فسدت (خربت من الداخل) فكيف سيكون الخروج.
قيس القنطرة
إذا كان المنعرجان الليبراليان السابقان (1970و 1987) قد انجزا بعقل الدولة نفسها وهي تملك ورقات تفاوض فإن المنعرج الأخير سيتم بقوة خارجية. وليس لأحد قدرة على رد الخيارات المفروضة وهي خيارات ليبرالية خالصة. تستهدف آخر ما تبقى من المؤسسة العمومية الخدماتية والاقتصادية.
لقد صنع قيس سعيد الفرصة من دون علمه، فلم يكن خياراً له برنامج من أي نوع. وهو كرجل قانون شكلاني لم يكن يشغل باله بالخيارات الاقتصادية ويمكن اعتباره نموذجا معبرا على انشغالات النخبة بالتغيير السطحي عبر العمل بالقوانين الفوقية من دون قراءة للواقع المتحرك تحت أقدامها.
كانت كل المؤشرات تفضح فشل المؤسسة العمومية وتكشف الطابع المافيوزي للمؤسسة الاقتصادية الخاصة إلا قليلا غير مؤثر. وكانت الثورة على هذا الفشل نفسه لكن من حكم بعد الثورة لم يصحح الأوضاع وبقي يرزح تحتها كلها يجرب السائد ويسد الفرج والثقوب في سفينة استنفدت قدرتها على الإبحار. وينشغل (يهرب إلى) بحرب أيديولوجية مفوتة يقودها اليسار الفرنسي ضد الإسلاميين ويغرق فيها مجتمعا وثورة ويعجز فيها الإسلاميون عن الخروج عن السائد وفرض خيارات لم يبد أبدا أنهم فكروا فيها.
قيس تحت رقابة عيون متربصة خلق فرصة عظيمة إذا كسر السائد وخلق الفراغ ولم يقدم البديل وهو دور مهم في هذه المرحلة. فهيأ الفرصة لتدخل مؤسسات الإقراض الدولية بشروطها. لقد اتخذ خطوات شكلانية حطمت آخر مظاهر الدولة وسيكون جسر العبور من دولة اجتماعية تعاني ثقل البيروقراطية إلى ليبرالية متوحشة وهي ومن دون تخطيط من سعيد وحزامه التي ستنجز التحول الليبرالي الأخير وتنهي منجزات دولة الاستقلال التي حاولت أن تكون دولة اجتماعية. هل خلق قيس سعيد لهذه المهمة أو اغتنم كفرصة النتيجة واحدة؟ دولة الاستقلال انتهت مع قيس سعيد.
الخيار الليبرالي القادم
يظن معارضو سعيد وهم يطاولونه ولا يسقطونه بأن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد ستسقطه وتكفيهم شر القتال بل ستعيد إليهم السلطة التي اغتصبها، لكنهم يغفلون أن الأزمة ستقضي عليهم مجتمعين وفرادى فهم يختصمون على شكل الدولة الدستوري (وهو مجال اختصاصهم ورياضتهم الوطنية) أي على القوقعة الفارغة التي تركها بن علي ولم تملأها الثورة بأية خيارات اقتصادية واجتماعية.
تراقب مؤسسات الإقراض الدولية وبعين أمريكية ما يجري وهي أعلم من التونسيين بأنفسهم بعمق الأزمة وهي من تملك حلها، لذلك تترك لقيس سعيد الحبل على الغارب حتى يواصل التعفين ضمن السائد المتعفن أصلا. فإذا بلغت الأزمة نقطة اللاعودة وهي بالغتها في القريب العاجل مدت قصبة الإنقاذ لمن يأتي بعد قيس. فتنهي دور الجسر لتفتح المجال الليبرالي على مصارعيه. وغير مهم من يكون الشخص والأفضل أن يكون شديد المراس مثل بن علي. وخاصة يفلح في الإجهاز على النقابة وأسلوبها في ابتزاز الدولة وتفليسها باسم الاجتماعي.
مطلوب من الحاكم القادم سواء جاء بالدستور أو على ظهر دبابة (لن يهتم الأمريكي كثيرا بشكل الوصول إلى السلطة) أن يجهز على العوائق أمام الليبرالية وفي مقدمتها المؤسسة العمومية المفلسة، والإنفاق العمومي المفرط وعلى محيط عمل دربته النقابات ويا للمفارقة على الكسل وتلقي اللقم الباردة من الإنفاق العام.
هناك صندوق يلتهم الموازنة اسمه صندوق الدعم أو صندوق التعويض مطلوب من الحاكم الجديد أن يجعله أثرا بعد عين. هناك مؤسسات عمومية مفلسة (مثل الناقلة الوطنية) تلتهم الموازنة عوض أن ترفدها بالمرابيح. هناك شركة سيارات تحولت إلى ريع خاص بالنقابات ومثلها شركة المياه ومثلهما شركات عمومية تحولت إلى عبء بعد أن أنشئت لتكون رافعة لاقتصاد عمومي اجتماعي كافل. هناك تعليم مجاني وصحة مجانية لم يعد لها مجال في عالم يعيش المنافسة على الخدمات المنتجة.
مطلوب من الحاكم الجديد القادم بعد قيس وفي القريب العاجل أن يتولى هذه المهمة نظير تمويل محفز يحول البلد من حال إلى أخرى (وكم كان قيس سعيد فرصة). يمكننا هنا أن نكيل التهم للنقابات وهي ذات دور كبير في تخريب الدولة الاجتماعية، ولكن ما كان للنقابات أن تفلح لو وجدت مواطنين يؤمنون فعلا بالدولة الاجتماعية ويحمونها أولا من عربدة النقابيين قبل عربدة المافيا.
لقد ربت الدولة الاجتماعية وبواسطة النقابات نفسها مواطنا كسولا يحب (اللقمة الباردة) لذلك كان يسير مع النقابات في كل مطلب ولو كان يعقل أنه مطلب خارج المنطق. وقد آن لهذا المواطن أن يستفيق ليعتمد على نفسه وليس أفضل من قطع المرضعة العمومية التي عاش منها كل هذا الوقت.
إنه الزمن الليبرالي وهو يقتحمنا بقوة ويحمل نهاية قيس سعيد ونهاية حزامه السياسي والأيديولوجي، كما يحمل نهاية التشكيل الحزبي الغبي المعارض له وفي مقدمته الإسلاميون والذي لم يلتقط رسالة الثورة الاجتماعية فينقذ الدولة الاجتماعية لتواصل دورها الأول.
قيس الجسر الخشبي القصير في الزمن هو نهاية دولة وبداية أخرى (الجمهورية الثانية الفعلية) وقديما قيل يجعل سره في أضعف خلقه. مع تفصيل مهم في عالم ليبرالي ستكون معارك الأيديولوجيا وخاصة خصومة الحداثيين والإسلاميين تسلية تشبه قراءة كتاب الحمقى والمغفلين لابن الجوزي.