يقدم لنا سير الوقائع في تونس بعض الإجابة عن أسئلة اضطهدتنا منذ بداية الثورة، وخاصة في المنعرجات التي ظهرت فيها معطيات غير قابلة للتفسير بأدواتنا التحليلية الكلاسيكية.. من يحكم تونس فعلا؟ ومن يتحكم في مسار حركتها وثوابت جمودها أو رفضها للتغيير الجدي والعميق؟
إننا نكتشف حزب الإدارة، أو ما كنا نستسهل تسميته بحزب الإدارة العميقة. ونحن نشهد استعادته للدولة بعد أن انحنى للثورة وسار في ركابها أو لم يعارضها معارضة صريحة تكشف موقعه. ما هو حزب الإدارة؟ وما طبيعته أو تركيبته؟ هل هو معطى واقعي أم وهم أداة تحليل أخرى خاطئة؟ ولماذا لم نتفطن له ونحن نركب أجنحة الأمل في التغيير؟
درسنا النظري حول دور الأحزاب لا يطبق على تونس
حللنا منذ البداية وناضلنا ضمن خطة نظرية عرفناها في دول الديمقراطيات التمثيلية، حيث الأحزاب تقود السياسة وتصنع البرامج وتقترح مسارات الحكم، بينما تعمل الإدارة في ركاب السياسة فتطيع ما تؤمر به. فهي جهاز تنفيذي ليس أكثر، ولا رأي لها بخصوص المستقبل إلا أن يكون خبرة تقنية يوجهها السياسي لمجالها المحدود.
عشر سنوات من الثورة كشفت أن هذه الخريطة وضعت لبلدان وتجارب أخرى وتطورت بها، لكن نقلها طبقا للنظرية يثبت محدوديته حتى الآن. (تكنولوجيا الحكم ليست متطابقة تماما، إنها مثل الجرارات الزراعية ذات السكك المستديرة والتي صنعت لأرض تمطر بمعدلات عالية، فلما نقلت إلى البلدان الجافة ضاعفت سرعة التصحر والانجراد).
الأحزاب التونسية فشلت، حتى أنه يمكن القول إنها ليست أحزاب فعلا، بل مجموعات من الشباب قد تكون محمولة على أجنحة الأمل، لكنها عجزت عن اختراق الإدارة واستخدامها. لقد انغلقت دونها، حتى أفشلت هذه الإدارة كل البرامج والسياسات، وأوصلت البلد إلى حالة الحل الوحيد. فمن أراد أن يحكم فليخضع للإدارة، أي فليحافظ على الموجود من الأشخاص والتنظيمات والسياسات الجارية دون أي تغيير.
النقابة والادارة تعاونتا ضد الثورة
قد تكون النقابة هي التنظيم الوحيد (أو الحزب غير الرسمي) الذي كان يعرف الإدارة وتعاملت معها على هواها، لذلك أمكن لها بناء علاقة معها عبر المطلبية المباشرة طبقا للقانون وخارجه أيضا.
وقد كنا نظن أن النقابة تنظيم يستخدمه اليسار المتطرف ضد خصومه السياسيين، وخاصة الإسلاميين الغرباء عن الحكم، ولكن هذا ليس الحقيقة الوحيدة أو الكاملة، بل لعلها الأقل تأثيرا (أو هي الغطاء الذي يخفي غابة الإدارة الفعلية)، إنما الأثر الحقيقي أن كوادر الإدارة العليا والوسطى وقطعان الموظفين استخدمت النقابة في مطلبيتها المشطّة، وكانت دوما تضع الحكومات الهشة بين خيارين أحلاهما مر؛ إما الاستجابة لمطالب تفوق قدرة الدولة، أو تعطيل كل السيستام الإداري والسياسي. وكانت الحكومات ترضخ، ليظل هناك وهم حكم.
إحصائيات الإضرابات تكشف أن القطاع الخاص الذي لا يخضع للإدارة بشكل مباشر لم يتعرض إلى الاضطهاد النقابي، وظل يعمل بينما تركزت الحركات الإضرابية في المؤسسات العمومية الإدارية وغير الإدارية، أي عصب الدولة نفسها.
لقد أُخذت هذه المؤسسات رهينة في الظاهر للنقابات، وفي الواقع لموظفيها وكوادرها الذين كانوا يعرفون أنهم يغالون في المطلبية رغم معرفتهم باحتمالات الانهيار الناتجة عن ذلك. والنتيجة أن قدرة الحكومات السياسية المتعاقبة قد وصلت إلى نهايتها وأعلنت فشلها، والإدارة تستلم الدولة بشكل مباشر.
من يمثل حزب الإدارة الآن؟
حكومة المشيشي هي التجسيد الفعلي لوصول الإدارة لحكم البلد. ويعتبر الرئيس نفسه ثمرة هذه الإدارة، فهو ليس أكثر من موظف متقاعد قضى ردحا من عمره يعلم الطلبة النظام وعُلوية القانون وضرورة الخضوع، ولذلك كانت خريطة أفكاره بسيطة. وقد حاولنا توهم عمق ما في خطابه، ولكنه انتهى بنا إلى استعادة سلطة الموظفين الكبار الذين ربّاهم النظام الإداري على الطاعة والخضوع وخشية التغيير، حتى أن النصوص القانونية تتحول عندهم إلى مقدسات لا يمكن الشرك بها. لم يكن الرئيس إلا نصا إداريا محنطا يسير على قدمين متعبتين.
لقد وصلت الإدارة من بوابة تعجيز السياسيين الذين حوّلهم الرئيس الإداري في الحلقة الأخيرة إلى لعنة (إسقاط الفخفاخ بمعلومات خارجة من بلعوم الإدارة العارفة بكل شيء والتي يمكنها أن تمسك ملفات عن الجميع).
هنا نمسك بخيط الإجابة عن كنه الإدارة، فهي ليست شيئا غير قطعان من الموظفين غير المنتمين إلا إلى فردانيتهم البسيطة والواضحة، والتي قادتهم بداية إلى العمل الإداري في القطاع العام لأنه بلغة التونسيين مثل المسمار في جدار دق مرة ليبقى أبدا. ليسوا كيانا تنظيميا لوحدهم، فكثير منهم منخرط في الأحزاب التي فشلت (أو أفشلوها)، ولكنهم عمليا يملكون القدرة على تعطيل كل شيء بقطع النظر عن الأفكار السياسية المعلنة.
إنهم ليسوا حزبا في الواقع، ولكن بين كل مكونات الإدارة اتفاقات أقوى من الاتفاقات السياسية، فالإدارة هي الغنيمة (يمكننا التحدث عن حزب الغنيمة). تظهر هذه الاتفاقات بشكل واضح في العدوى الإضرابية، فبمجرد أن يعلن قطاع ما إضرابا ويحدد مطالب ويحصل عليها حتى تعلن نفس المطالب في بقية القطاعات.
يظهر تضامنها أيضا في رفضها التغيير، فمنذ ثلاثين سنة (زمن بن علي) يدور حديث عن عصرنة الإدارة ورقمنته،ا ولكن كل البرامج فشلت أو تكاد أو هي تتقدم بصعوبة بالغة؛ لأن كل رقمنة أي كل تطوير تقني يعني فقدان قطعان الموظفين لدورهم وأهميتهم، وبالتالي مكاسبهم من الوضع القائم.
الرقمنة كانت تعني نقص العدد البشري عبر الاستعاضة بالآلة، ولذلك فإن كل آلة جديدة هي تهديد للقطعان التي تقدم الحد الأدنى من الجهد لأقصى ما أمكن من المكاسب (الغنائم). ولم تكن الطبقة السياسية تركز الضوء على هذا الجانب، لذلك عجزت كلها على اختراق هذه الطبقة السميكة من رافضي التغيير والتقدم التقني والبشري.
الإعلاميون دافعوا عن إدارتهم
إنهم جزء من الإدارة، وقد حموا مواقعهم ومكاسبهم بالضغط الإعلامي على الحكومات التي ظهرت كلها فاشلة. وكانت لديهم دوما القدرة على بث الدخان للتمويه. والجملة التي ترددت منذ عشر سنوات أن حزب النهضة يحكم هي جملة ساخرة خرجت من الإدارة (من إعلام الإدارة) كدخان تمويه. لا أحد حكم غير أولئك الموظفين العارفين بالقانون والذين يرفضون تغييره، والذين وصلوا أخيرا إلى استعادة الحكم عبر تعيين بعضهم في رؤوس الوزارات.
باستعادة الوقائع القديمة، يمكننا القول إنها الحزب الذي حكم عوض ابن علي، الذي تبين أنه ليس أكثر من لص من لصوص المال العام، وكانت الإدارة تعطيه ما يريد وتفعل ما تريد. لم تكن لها نفس القدرة على الضغط النقابي بحكم قوة الدكتاتور اللص، ولكن بمجرد اختفاء الدكتاتورية مدت ساقها في البلد حتى استعادته من الأحزاب التي حللت دوما وتصرفت طبقا لنظرية شكلية حول الديمقراطية التمثيلية.
هل من مهرب من حزب الإدارة؟ هذه الورقة واقفة عند هذا السؤال، عاجزة عن تخيل واقع مختلف. اليقين الوحيد الظاهر أن حزب الإدارة أفرغ الثورة من مضامينها واستعاد مواقعه ونفوذه ويقود البلد إلى الجمود الأبدي، والرئيس الإداري سعيد بذلك وإن تظاهر بخلافه.