هل يمكن كسر المسار السياسي الجاري في تونس الآن (بعد انتخابات 2014) بواسطة عمل عسكري أو أمني فُجَائي؟
هذا الكلام يسمع في بعض المجالس في تونس في نهاية العام 2015. البعض يبرر ضرورة الانقلاب على المسار السياسي بعجز حكومة الحبيب الصيد (المسنودة من قبل الحزبين الكبيرين) عن التقدم في مسار محاربة الإرهاب ولعجزها الاقتصادي الفادح حيث أنها تتجه إلى تحقيق نسبة نمو سلبية. والبعض يضيف إلى ذلك عجز رئيس الدولة عن القيام بمهامه السياسية والأمنية خاصة وحزبه الذي بناه ووصل به إلى قرطاج يتفكك ويضعف بما يفقده أي سند في الشارع. فهل يملك الراغبون في انقلاب سريع وسائلَه ومخرجَاتِه؟ أم أن فكرة الانقلاب صارت أُمْنِيَة العاجزين عن الوصول إلى السلطة فصاروا يهذون بها في المجالس؟
الجيش يعرض عن الحكم
أُخْرِج الجنرال "رشيد عمار " قائد الأركان من سُباته الشتوي في الأيام الأخيرة، كأنما ليخضع لاختبار رغبة في انقلاب، وهو الذي لايزال يمسك بخيوط ولاء داخل المؤسسة العسكرية. فأثبت وتمسَّك أنه رفض ذلك في وقت كان العمل العسكري سهلا ومرحبا به. بل إنه وضع نقاطا على حروف كثيرة غامضة منذ ليلة 15 من يناير/كانون الثاني 2011. منها أن وزراء "بن علي" حرَّضوه على انقلاب عسكري لقطع الطريق على احتمال سيطرة حزب النهضة على البلاد. فضلا عن هذا التذكير، فإن التونسيين عرفوا من تصريحات الرئيس "المرزوقي" رغم تحفظه حول التفاصيل، أن محاولة جدية للانقلاب بالتزامن من الانقلاب المصري قد أُجْهِضت ومن داخل المؤسسة العسكرية في صائفة 2013. بما أحبط تقريبا آخر المحاولات في القفز إلى السلطة بواسطة العسكر. بعدها اتجه المسار إلى العمل السياسي بقناعة أن الانقلابات قد صارت وراء ظهور التونسيين. والقائم اليوم من مؤسسات على بؤسها وعجزها عن النهوض بالبلد اقتصاديا جاء بفعل القناعة أن المسار السياسي بكل عقباته لا محيد عنه (أهون الشَّرَّين). وأن من يريد القفز إلى السلطة لن يملك وسيلتها. فالوسيلة الأقوى ليست مستعدة وربما تحكمها قناعات مدنية أكثر من المدنيين المغرمين بالوصول إلى الحكم على ظهور الدبابات.
العاقل من اتعظ بغيره
يُفْتَرَض فيمن يفكر في الانقلاب في تونس أن يقرأ بدقة وحصافة فشل الانقلاب المصري في الاستقرار وحلّ مشاكل المصريين. فليس كافيا أن تصل إلى السلطة بقوة الدبابة. بل الأكثر أهمية هو ماذا تقدم للناس من حلول ليقبلوا بك حاكما عسكريا. لأن عامة الناس وإن كان فيهم عشاق القوة الذين يرون في المسارات السياسية ميوعة ينتظرون دوما حلولا لمشاكلهم اليومية. في الغذاء والأمن وهي الحدود الدنيا لقيام المُلْك على رأي "ابن خلدون". والجميع يشاهد غرق الانقلاب في مصر فلا هو وفّر الأمن ولا حل مشاكل المصري العادي في العمل والغذاء. برغم الرفد المالي المنهمر عليه من كل رعاته الذين نصحوا له بالقفز إلى السلطة لغايات لا علاقة لها برفاه المصريين وسعادتهم. فإذا أضفنا إلى ذلك تجربة الجيش المصري في الحكم منذ نصف القرن مقارنة بتجربة الجيش التونسي فإن فشله يصير مضاعفا. فكيف لمن يريد النسج على منواله بقوة عسكرية غير مدربة وقليلة العدد أن ينقُضَ مسارا سياسيا مدنيا ويواجه حالة الفشل الحالية في التنمية؟ فالبلد على حافة الإفلاس الاقتصادي والاجتماعي وحل معضلاته ليس بقوة الدبابة.
الإرهاب تهديد ولكن
يُتَّخَذُ التُّهديد الإرهابي كمبرر للانقلاب واستعمال القوة للقطع مع الميوعة السياسية (بوابة الإرهاب). لا يمكن في الحالة التونسية التهوين من الخطر الإرهابي الذي يتربص بالبلد والتجربة. فالاستقرار السياسي المفضي إلى التنمية الاقتصادية يقطع الطريق على الفوضى التي يتسرب منها الإرهاب.والإرهاب لا يود ذلك بل يعفِّن الأوضاع للدفع إلى حالة اللاَّمن التي تضمن له العمل بنجاعة (التوحش). لكن هنا أيضا يمكن الاستفادة من الحالة المصرية مع الأخذ بعين الاعتبار فارق القوة والتجربة العسكرية المصرية في مقاومة الإرهاب. لقد ضرب الإرهاب في ظل الحكم العسكري بقوة لم يقدر العسكر على توقعها ولا على صدها ولا على معالجة آثارها وخاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية. فهل يمكن لانقلاب عسكري في تونس أن يستبق الإرهاب ويقضي عليه ويفرض الأمن؟
نميل إلى الاعتقاد أن هذا مستحيل ولو وضعت أشد الأحكام العرفية حيز التطبيق. إن الإرهاب مبرر جيد لإطلاق عمل عسكري لكن العسكري التونسي ولو بغلاف مدني وبقوانين طوارئ قاسية سيعجز عن الإحاطة بكل الرقعة الجغرافية وتأمينها (جيش شجاع ولكن غير مدرب على الأعمال الأمنية). ونضيف بأسف إن الأمني التونسي اثبت عجزه أمام الإرهابي. فالعمليات التي تمت في تونس وخاصة في عام 2015 بينت أن الأمني غير مجهز وغير مستعد نفسيا لمواجهة قاسية مع الإرهاب. فكيف له أن يعاضد مؤسسة عسكرية بلا تجربة حكم. لكل هذه الأسباب نعتقد أن الانقلاب في تونس شهوة لدى البعض وليس احتمالا واردا خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الدعم الخارجي المسبق الذي يتطلبه كل عمل انقلابي أي وجود الرعاة الخارجيين الموجهين للانقلابات وهي حقائق تاريخية لا شك فيها والمصري هنا أيضا مثال ساطع.
الخارج يقنع نفسه
القوى الخارجية التي حكمت من وراء ستار الأنظمة العميلة التي أسقطها الربيع العربي وبعد أن أفلت منها زمام الأمور في العام 2011 استوعبت المشهد وعادت تفرض شروطها خاصة وقد كان عام 2012 هو عام الحكومات المائعة. أفلحت في العام 2013 في كسر موجة الربيع العربي. لكنها سعت إلى رعاية تجربة مدنية في تونس تحجم الإسلاميين وتفرض شراكة مع النظام القديم. ومنحت التجربة جوائز دولية لإبرازها كمثال يحتذى به. وهي وإن كانت تستنزف التجربة اقتصاديا بقطع الدعم المالي (الذي يمنح أضعافه للعسكري المصري) إلا أنها تزين للتونسيين تجربتهم وتحرضهم على البقاء تحت السقف المدني محاولة تقديمهم كحل وحيد ممكن. لذلك لا نراها راغبة في دعم عمل عسكري يفسد عليها خطتها في تدجين الشارع العربي بأنصاف التجارب الديمقراطية. وهي أول من يعرف كلفة دعم انقلاب عسكري في بلد يعيش أزمة اقتصادية.
إن صور قوارب الهجرة السرّية التي ملأت الشاشات غداة الثورة تسبب للجيران الغربيين كوابيس ضاعفتها موجات الهجرة السورية وعمليات الإرهاب في فرنسا. ولذلك فإن رغبتها في قطع الطريق على فوضى محتملة يجعلها تدعم وتزين الاستقرار المدني ولو لم يؤد وظيفته في التنمية ومعالجة القصور الاقتصادي والاجتماعي. فكلفته عليها أقل ويمكن التحكم فيه ومنحه قصبة ليتنفس بها فلا يموت ولا يحيا ولكنه يُخْضَع ليحمِي حدودها مقابل غذائه. وهو نفس الدور الذي قام به بن علي قبل وفاته السياسية. مهمة شرطي على الضفة الجنوبية لحماية أمن الضفة الشمالية. إن مثالية التجربة التونسية في سلميتها الرخوة إغراء جميل يقطع الطريق على من تحدثه نفسه بانقلاب.
الربيع العربي يتقدم برغم العراقيل
لنخلص إذن إلى ما يلي. الربيع العربي المرتبك يتقدم رغم العراقيل. هو لا يتقدم بسرعة تقدم الثورات الحاسمة لكنه يجعل الرجوع إلى الوراء حالة مستحيلة. سخرية التونسيين من العمل الإرهابي وإقبالهم رغم الفقر والبطالة على ممارسة حياتهم بشكل عادي بل تحويلهم الأمور إلى نكتة يؤشر على أن الأمن حاجة نفسية مستقرة وأن التخويف لا يؤتي أكله للمرجفين (وكالات الاستطلاع المشبوهة). ويمكن قراءة المقاطعة المصرية لانتخابات السيسي علامة على أن الثورة تستمر بعدم المشاركة في الثورة المضادة. يكفي أن تصمت الشعوب لتسقط الانقلابات. هذا فضلا عن مؤشرات كثيرة عن خيبة ممولي الانقلابات من عجز الانقلابين وفشلهم فيما انتدبوا له. لذلك نزعم أن الانقلاب العسكري في تونس هو فانتاسما يستلذها العجزة الذين قصرت بهم طاقتهم على فعل سياسي مدني ناجع.
لكن ، ومن دون تفاؤل مغشوش، على) المدنيين المنتخبين) أن يفلحوا فعلا فيما انتدبوا له، وإلا فإن الفوضى ستنفجر من عجزهم وستلتهم الجميع، وساعتها سيكون أمام الإرهاب باب مفتوح لا يغلقه العسكر، وإن سعى، وليتذكر الأذكياء أن أقوى الدول تسليحا وتخابرا قد اخترقها الإرهاب وضرب: حيث أراد، متى أراد.