بين التمني والتوقع نطرح السؤال؛ يجمع المتفائلون مؤشرات على اضطراب الموقف الفرنسي في المغرب العربي وأفريقيا، وإيذانه بالأفول، بينما يتحدث واقعيون كثيرون (ولعلنا منهم) عن عملية إعادة انتشار جديدة تبدأ بتغيير الحلفاء، دون تغيير الموقع والتأثير والخطط الأصلية. فلأن فرنسا تعرف نهايتها في نهاية سوقها في أفريقيا، ليس من اليسير عليها أن تفرط في سوق صنعتها على هواها طيلة المرحلة الاستعمارية، وظلت تحكمها مباشرة أو من وراء حجاب طيلة القرن العشرين وما تلاه.
اضطراب السياسة الفرنسية في أفريقيا وفي شمالها خاصة
لا تخفي فرنسا دورها في الحرب الأهلية الليبية، فخبراؤها العسكريون يقاتلون في صفوف حفتر، بينما موقفها الرسمي مع الشرعية الدولية التي تسند حكومة السراج في طرابلس. وقد كانت إلى جانب حلف الثورة المضادة العربية وراء الهجوم على طرابلس؛ بغية الحسم وتمكين حفتر من السيطرة على البلد، وخاصة منابع النفط ومواني التصدير.
فشل حفتر حتى الآن في الحسم، وتخلى الأمريكيون عنه، مما جعل فرنسا تغطي هزيمة حليفها بالظهور في فريق إسناد الشرعية، لكن الليبيين صنفوا فرنسا في خانة الدول المعادية، وتوشك أواصر التعاون بينهما أن تنقطع نهائيا، خاصة وأن الحليف الإيطالي القديم يقف مع طرابلس. وقد كشفت تصريحات دبلوماسية وصلت حد التنابز؛ أن إيطاليا ليست راضية عن ضياع مصادر الطاقة الأقرب إليها لصالح فرنسا.
في الجزائر يعلن شباب الحراك القطع مع فرنسا، ويربط حراكه بثورة التحرير وبناء الاستقلال والسيادة، ويصنفون فرنسا في خانة العدو الأول لدولتهم وتاريخهم وحراكهم، وهذا أمر يربك فرنسا. فالجزائر لا تزال فرنسية في العقل السياسي الفرنسي، وإن أخرجت منها ذليلة مكرهة ذات يوم.
يحار الفريق الجزائري الحاكم كيف يرد على مطلب الحراك الجديد، وهو يعرف أن روابطه مع فرنسا أقوى من أن تقطعها قرارات عجولة. فالفساد المستشري مرتب مع جهات فرنسية تستقبل المال الفاسد وأهله وتشجع عليه، وتحرص على أن تستمر في الجزائر إدارة فاسدة تضمن لها مصالحها القديمة والجديدة، وخاصة في مجال الطاقة (يتحدث الجزائريون عن مجانية الغاز الجزائري لفرنسا منذ الاستقلال). فرنسا توشك أن تخسر فريقها (حزبها) في الجزائر كما خسرت ليبيا، وهي تخسر تونس أيضا رغم حركة السفير الفرنسي النشطة. فحلفاء فرنسا في تونس يتلاشون، حتى إنها تضطر إلى الحديث مع خصمها اللدود، رئيس حزب النهضة، الذي كان محرما عليه دخول الأراضي الفرنسية يوم كان حليفها بن علي ويطارده في كل أوروبا. ما الذي يجري لفرنسا؟
الدولة الاستعمارية لم تفهم درسها بعد
كان يمكن للدرس الرواندي أن يكون منعرجا حاسما في سياسة فرنسا في أفريقيا. لكن العقل الاستعماري ظل يحكم السياسة الفرنسية فلم تقدّر خسارتها هناك، حيث افتضحت مؤامرتها في إذكاء حرب أهلية ذهبت بأرواح مليون شخص. لقد حرر الروانديون بلدهم من فرنسا ومن نفوذها الاقتصادي ومن هيمنتها الثقافية، فانطلق قطار التنمية وحقق أرقاما مذهلة في زمن قياسي، وصارت رواندا نموذجا يغري بقية شعوب المنطقة، فلا نجد إلا من يطلب النسج على منوال رواندا، بما في ذلك شعوب شمال أفريقيا من العرب الذين طالما نظروا إلى أفريقيا نظرة استعمارية؛ لا تختلف كثيرا عن نظرة فرنسا للسود.
تلك الخسارة تجر خسارات، ولكن فرنسا تصر على البقاء قوة استعمارية ترتب الانقلابات وتبتز الحاكمين بماضيهم، وهو ليس ماضيا نظيفا. نوع من البلطجة الدولية التي ينتبه لها العالم ويريد وضع حد لها وما النزاع الفرنسي الإيطالي الأخير، إلا عينة مما ينتظر فرنسا في تملكها غير الشرعي لأفريقيا ومقدرات شعوبها، حيث نسمع كثيرا عن تململ الشعوب في منطقة الفرنك الأفريقي (الساحل الأطلسي خاصة). وهناك نذر رواندية تعم أفريقيا، وبعضها ما يجري في الجزائر وليبيا وتونس.
الربيع العربي نذير نهاية فرنسا الاستعمارية
مهما هونا من دعوة الغنوشي لفرنسا والحديث معه بنوع من الندية المنافقة، فإن ذلك مؤشر تحول وتراجع عن الغطرسة القديمة ربما لصالح مرحلة منافقة طويلة للثورة العربية، ولكن لا يمكن إنكار وعي فرنسا بالخطر القادم من هذه الثورات الصغيرة والمتقطعة؛ ولكن المثابرة والحريصة على ربط مطلب التحرر الداخلي من الدكتاتورية بالتحرر من الخارج الاستعماري وعلامته فرنسا ولغتها وثقافتها وسوقها.
وقفت فرنسا مع بن علي حتى آخر دقيقة، ووقفت مع انقلاب العسكر المصري ونسقت عملها السياسي والعسكري المضاد للثورات مع أعداء الثورة من بلدان الخليج المتخلفة. ولكن المشوار الاستعماري ينذر بنهاية لقد تفطنت الشعوب إلى عدوها الحقيقي، وقالت: فرنسا "ترحل قاع".
الربيع العربي ثورة تواصل معركة التحرير الأولى، وفرنسا تعرف ذلك، وتحاول طمس هذه الحقيقة، ولكن وعي الشعوب يزداد مع تلبس فرنسا بدورها القديم. وعليها البدء فعلا في حساب خسارات غير قابلة للجبر في ليبيا وفي الجزائر، مثلما خسرت رواندا.
متى تجهز الشعوب على الغطرسة الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا؟ لن يطول الزمن لنعرف الإجابة، فالمؤشرات تتراكم وتشير إلى أفق حرية خارج الفرانكفونية الاقتصادية والثقافية، فالزمن يشتغل لصالح الشعوب. سيشهد هذا الجيل الثائر نهاية الإمبراطورية الفرنسية في أفريقيا.