الكتابة عن النقابات في تونس تشبه في طعمها تناول طعام السجن، إنها كتابة عن البؤس الأخلاقي، ولم نمر يوما بنص في مديح النذالة لنستعير منه مديح البؤس الأخلاقي. في قمة أزمة الوباء الذي يحصد الأرواح بالآلاف تدخل نقابات الصحة العمومية في إضراب وحشي لثلاثة أيام في بداية شهر أيار/ مايو 2021، ويشمل الإضراب الأطباء وأعوان الصحة المكلفين بإعطاء اللقاح وأخذ عينات التحليل لاختبارات الوباء، فيجد الناس أنفسهم أمام مشافٍ مغلقة فيعودون ليحسبوا ساعاتهم الباقية.
أما المطالب المعلنة فسن قوانين لتنظيم القطاع وفرض منح العدوى، وهي مطالب قابلة للتأجيل إلى ما بعد انقشاع الوباء، لكن الوباء الذي أضعف الحكومة الضعيفة أصلا بفعل مكائد الرئيس اتُخذ وسيلة ضغط عليها، كأنها حكومة عدوة.
إضراب سياسي لا تغطيه المطلبية
لا يمكن قراءة هذا الإضراب إلا كإضراب سياسي موجه لمزيد من إضعاف الحكومة ودفعها إلى انهيار تام، ووضع البلد في حالة فوضى حكم لا يمكن توقع مصيرها. كان يمكن تنظيم احتجاج شعبي بقيادة نقابية ضد عجز الحكومة عن توفير اللقاحات في وقتها، وكان سيكون تحركا مشروعا وأخلاقيا دون غلق المشافي ودون تعطيل الخدمة العلاجية الملحة في وضع كارثي. لكن عوض ذلك أعلنت النقابات مطالب بخصوص قوانين تنظيم القطاع الذي لم تعطله قوانينه الحالية بقدر ما عطله سوء التصرف في الموجود من الإمكانيات، وهي إمكانيات موضوعة بيد القطاع الصحي العمومي نفسه وليست بيد الحكومة.
لذلك نقرأ هذا التحرك قراءة سياسية ونضعه في إطار سياسة التعفين الموجه رأسا ضد حكومة المشيشي لدفعها إلى السقوط وهي في أسوأ حالاتها، وعجزها يأتيها من خارجها أكثر مما يأتيها من داخلها. إنها جهود جهات متظافرة تدفع البلد إلى الانهيار الكامل، وهنا نسأل: من هذه الأطراف وكيف التقت على استراتيجية التعفين؟
يضغط الرئيس على الحكومة برفض أداء وزرائها اليمين القانونية، فتبقى الحكومة في وضعية التصرف القاصر بأقل من قدرتها الدنيا. تتجنب الحكومة مواجهة الرئيس وتجاوزه، فتقوم النقابات مستغلة الوضع الصحي الكارثي لتغلق المشافي، في نفس الوقت تقوم نقابات المهندسين بالضغط لتحصيل مكاسب مادية في غياب قدرة الحكومة على الاستجابة.
ويستمرئ المهندسون والأطباء وأعوان المالية رفع سقف المطالب مع علمهم المطلق بعجز الحكومة عن الدفع، ولم يبق للحكومة إلا أن ترفع يدها معلنة الاستسلام فيتقدم المحرضون إلى لحظة الفراغ التي يبحث عنها الرئيس ليعمل بقانون الطوارئ ما يرغب فيه، أي إلغاء نتائج انتخابات 2019 وخلق وضع مؤقت له بداية ولا يعرف أحد نهايته. المعفنون واحد إذن وإن اختلفت مواقعهم، فهم يتضامنون ضد حكومة المشيشي العاجزة بدورها، إنه عمل جبهة سياسية منظمة.
هل كان المطلوب مجاملة الحكومة؟
في وضع عادي ليس فيه وباء شامل يحصد الأرواح بالآلاف وتعجز دول قوية وحكومات راسخة عن مقاومته بإمكانياتها الذاتية، فإن الخروج على هذه الحكومة يصبح عملا مشروعا، بل ضروريا، ولكن الوضع غير الوضع والوباء لا يستهدف الحكومة بل يستهدف شعبا بأكمله (مهما كانت كفاءة حكومته). ولذلك فإن إضعاف الحكومة بالضغط عليها في خواصرها الهشة (صحة المواطنين في ظرف وبائي) عملية سياسية لها هدف هو ببساطة إسقاطها والحلول محلها. ولكن ما بديل من سيسقطها؟ وهل يملك الحلول الإعجازية التي تغير الوضع الوبائي بنفس الإمكانات المتاحة لهذه الحكومة؟ هل تخفي النقابات الساعية في التعفين حلولا لما بعد حكومة المشيشي؟
لا نرى ذلك مثلما لم نر حلولا لدى الرئيس الذي شرع في التعفين السياسي وعاضدته النقابات، وهنا نبحث عن السياسيين المتخفين في نقابات التعفين.
نجد حلف اليسار النقابي المنحاز إلى الرئيس، ونصفهم جميعا كجبهة تعفين تعمل على أجندة واضحة: إسقاط المرحلة وعنوانها الحكومة والبرلمان للمرور إلى وضع طوارئ فيها سلطات مطلقة للرئيس.
هذه الإضرابات تسعى سعيا حثيثا لخلق وضع يخول للرئيس توسيع قراءته للدستور واتخاذ حجة الخطر الداهم ذريعة لحل الحكومة العاجزة والبرلمان العاجز، وتسيير البلد بأوامر تزعم تجاوز الوضع المنهار، لكن بأية إمكانيات؟ لا إمكانيات جديدة مخفية في جيب الرئيس، ولكن الحجة ستكون بجانب من يملك جهازا إعلاميا يفسر السقوط الحالي بعجز الحكومة وحزامها البرلماني غير المتماسك أصلا، إذ يمكنه دوما أن يحول أنظار الناس عن عجز قادم بلعن عجز قائم، أما الحلول فلا حلول.
ويدعم قولنا هذا مقارنة بسيطة بما كان عليه وضع الحكم زمن حزب النداء (انتخابات 2014- 2019)، فقد كانت الرئاسات الثلاث عند حزب النداء ومطالب الأطباء والإطار الصحي (قبل الوباء) كانت على الطاولة ولم تسع النقابات إلى طرحها والإضراب من أجل تحقيقها، لقد كان مطلوبا حينها دعم حزب النداء وحكوماته (الصيد والشاهد)، أما وقد سقط الحزب ورؤساؤه الثلاثة، فإن بديله يجب أن يسقط رغم ظهور الوباء وتفشيه، وغير مهم ما يصيب البلد في الأثناء من خراب.
هل نحن ذاهبون الى الأسوأ؟
برغم الوضع، بل بسبب الوضع الوبائي نحن نتجه إلى الأسوأ سياسيا.. عجز الرئيس بمفرده عن خلق ما يكفي من العفن السياسي، وقد عطل أغلب مؤسسات الدولة وخلق صراعات وهمية يجر إليها الجيش والأمن، ويهون فيها من خطر الإرهاب وكشف عجزه عن اختراق المجتمع بما يتخيله من مؤامرات. لذلك دخلت النقابات اليسارية على خط التعفين، وهي حليف غير معلن ليقدم له الذريعة الكافية ليتصرف بصلاحيات يعرف كيف يختلقها بقراءته الانفرادية للدستور.
إضراب الصحة في وضع وبائي يدمر في نفوسنا كل نفس تفاؤلي، لذلك نفقد القدرة على توقع مخرج إنساني وأخلاقي ووطني من الأزمة. ونظن أن الاستعداد الشعبي للوضع السيئ القادم صار ضرورة للتصدي لكارثة نراها تتخلق أمام أنظارنا ولا نملك لها حلا. لا نملك هنا رفاه دفع الوضع بشكل جماعي للانهيار والتكفل بما بعده، فالطبقة السياسية تترصد وتكيد لبعضها ولدى البعض منها سند خارجي قريب؛ هو المستفيد الوحيد من بلد منهار يقبل كل الإملاءات، بما فيها كومسيون مالي لمعالجة الإفلاس.
متى ستحل الكارثة؟ لم يعد يجدي انتظار معجزة، والعزاء الأخير أن الانهيار القادم سيضع الجميع أمام حقيقة فاجعة في غياب سلطة شرعية سيكون مصير نقابات التخريب هو الأسوأ، وستكسر إلى الأبد قدرتها على التخفي في الأجهزة والمواقع القيادية لتدير الفوضى على هواها. سيأتي الخراب على النقابات قبل غيرها، وربما يكتب مؤرخون متأخرون عن هذه اللحظة أن الدم الذي كان تأجل منذ 2011 قد حان أوان دفعه. إن الخراب الذي زرعته النقابات في جسم الدولة سيكون وبالا عليها، فالشعب غير الملتزم نقابيا لا يقر لهذه الكيانات بأية سلطة.