نتذكر جيدا أن الانقلاب في تونس قد استولى على شعار الثورة "الشعب يريد"، وعليه بنى حركته الانقلابية وظل يعيش من الشعار يكيّفه على الوجه الذي يريد ويدفعه إلى الغاية التي يبغي، بما في ذلك إلغاء الدستور وهيئاته المنتخبة، وصولا إلى فرض برنامجه السياسي القائم على سلطات الفرد الواحد تحت مسمى النظام الرئاسي. لكن تحرك يوم الثامن من أيار/ مايو 2022 كشف بصفة قطعية وباتّة أنه ليس للانقلاب جمهور.
وهل كان له يوما جمهور قبل أن يتضح دور الحسابات الروبوتية التي روجت له يوم 25 تموز/ يوليو وانكشفت مصادرها للخاص وللعام؟
عدد قليل يمكن إحصاؤه بالعين المجردة، حتى أن وزارة الداخلية السعيدة باستعمال الدرون تخلت عن نشر الصور الكاشفة لحجم الفضيحة. ولم يفلح وزير الداخلية ولا والي (محافظ) العاصمة وقد نزلا المظاهرة للإسناد والتحفيز في تجميع عدد يستر الخيبة، هذا فضلا عن العراك بالأيدي والبصاق بين مختلف مكونات جمهور الرئيس.
نحن إزاء صورة كاشفة لنهاية جمهور الرئيس وانكشاف أن الشعب يريد ما لا يريد الرئيس، وهو الشعار الرد الذي صدر عن جمهور المعارضة الديمقراطية. ولكن السؤال: ماذا بعد تعري قاعدة الانقلاب ومعرفة العالم (في الدخل والخارج) أنه ليس للانقلاب أنصار في الشارع؟ وبصيغة أشد وضوحا: متى يخرج الجمهور الديمقراطي لوضع حد لمهزلة الانقلاب؟
الجمهور القليل متنوع وغير متجانس
معلومة قدمت نفسها للتحليل بلا عناء. الجمهور القليل جدا (نسميه جمهورا من قبيل المجاز) الذي نزل يوم 8 أيار/ مايو لم يكن جمهورا واحدا؛ كان فيه أنصار بلا وجه حزبي يتصرفون بطريقة مليشياوية. يظنون أنهم الأشد إخلاصا للرئيس، وليس لهم شعارات سياسية واضحة سوى طلب المحاسبة، دون تعيين الجهة التي يجب أن تخضع للمحاسبة.
فكلمة "فاسدين" صارت تضم كل من ليس معهم ولو كان فقيرا جائعا، لذلك عملوا على طرد قسم ثان من الجمهور، وهم أنصار حزيبات اليسار الاستئصالي (الوطد) وأحزاب الشبيحة، وهم كتل ميكروسكوبية على الأرض ابتدعت لها هوية جديدة؛ فهي مع حركة 25 تموز/ يوليو وتعتبرها حركة تصحيح دون أن تواصل إعلان الولاء للرئيس، بل تعتبر أنه انحرف بالحركة التصحيحية إلى غايات خاصة (كانت قد أعلنت ولاءها المطلق للرئيس في أول حركته ثم تظاهرت بالتمايز عن مليشياته ). وهي تؤلف موقفا على أن زمن ما قبل الانقلاب قد ولّى، لكنها لا تقدم أي تصور للدولة ولمؤسستها في المستقبل؛ لأن كل حديث عن الأحزاب والانتخابات والبرلمان المنتخب يعني عندها إعادة فتح الباب للإسلاميين للعودة إلى المشهد. وقد بانت حيرتها وهوانها البارحة أمام بصاق الحشد المليشياوي الذي رفض التنسيق معها وطردها من حمى التحرك.
هذا الجمهور القليل والمقسم والمتنازع هو ما تبقى للرئيس ليروج به أنه مقبول شعبيا. غني عن القول هنا أن الاستشارة التي ابتدعها قد بينت له حجمه الحقيقي، ولكنه رفض التسليم بهوانه ويواصل في مشروعه. ونظن يقينا أنه لن يعتبر فضيحة يوم 8 أيار/ مايو دليلا آخر أشد وضوحا على قلة حيلته وهوانه على الناس. وهذا يستدعي السؤال الأساسي: إلى متى يصبر الشارع الديمقراطي على مهزلة الانقلاب؟
اللحظة حاسمة لمن يريد الفعل
راج حديث كثير عن مصادر محترمة أن الرئيس دعا مجلس الأمن القومي لاجتماع، فرفض قادة الجيوش الحضور دون أن يكون هناك جدول أعمال واضح يناقش، فاكتفى الرئيس بلقاء مع وزير الدفاع ليلقي خطابا آخر من خطاباته الهيولية دون أن يكشف خطة عمل للمستقبل القريب. فإذا صحت هذه الأخبار، وأضفنا إليها صورة جمهور الرئيس يوم 8 أيار/ مايو، فإن التأخير عن الحسم في الشارع يصبح غير مفهوم وربما غير مبرر من قبل الصف الديمقراطي، وخاصة من جبهة الإنقاذ أو الخلاص كما سمت نفسها، وكما حددت مهامها النضالية. لن يكون هناك شارع مقابل شارع (ولن تهدد السلم الأهلي كما تروج ذلك وسائل إعلام موالية للانقلاب ويسيطر عليها اليسار الاستئصالي). لقد صار هناك شارع واحد هو الشارع الديمقراطي، والأحد زالت آخر حصاة من طريقه.
لقد حفّز ظهور السيد نجيب الشابي الكثير من الديمقراطيين للتخلي عن تحفظات كثيرة (أنا أحد المتحفظين على الرجل شكا في شجاعته وصدقه) تتعلق بهيمنة حزب النهضة على المعارضة الحالية وعلى ما قد ينتج عن تحركاتها مستقبلا. وما زال متحفظون كثر لا نظن أنهم سيعدلون موقفهم (الكسول في العمق)، لأنهم اختاروا دوما الوقوف ضد الإسلاميين بقطع النظر عن سلامة موقع الإسلاميين السياسي. وهؤلاء مهما تعددوا قلة غير ذات وزن في الشارع.
التريث الذي تبديه المعارضة تحت مبرر انتظار انضمام هؤلاء إلى المعارضة هو خطأ كبير، مبني على مثالية سياسية تتوهم وحدة شاملة ضد الانقلاب. إنها لحظة حسم وتقدم، والنتائج على الأرض ستأتي بكثير من هؤلاء طمعا وتزلفا كما فعلوا دوما مع كل منتصر. إنهم العمق الحقيقي لحزب الكنبة الذي لا يشارك في المعركة ويدخل في الربح (يمكن وصفهم بحزب الربوة).
سؤال أخير تفرضه اللحظة: هل توجد علاقة بين تردد المعارضة في الحسم ومواقف أو رغبات السفارات بما هي حسابات سياسية لدول الجوار المؤثرة؟
هذا بعض ما نظنه ونخشاه على الموقف العام من الانقلاب ومن الموقف مما بعد الانقلاب. نعرف أن فرنسا مثلا تفرض إرادتها على كل من حكم تونس في موضوع محدد؛ أن لا يكون هناك إسلاميون في الحكم، وهو موقف شق كبير من الحكم في الجزائر (جزائر الجنرالات خاصة)، دون أن ننسى أنه قد صار لمصر أنصار يرتبون موقفهم مع حكامها، وآخرون وبعضهم في المعارضة يرتبون موقفهم بقدر اتساع المسافة مع النظامين التركي والقطري (المناصرين للنهضة).
ليس من قبيل إعادة اكتشاف العجلة التذكر بأن تونس تقع في قلب سياسات دولية تتعلق حتى بأمن المتوسط نفسه، لذلك فالحديث مع السفارات ليس جريمة لكنه يتحول إلى عائق إذا تم تعديل الموقف الداخل على الرغبات المتناقضة لهذه السفارات. ونظن أن كثيرا من فشل سياسات حكومات الثورة هو محاولات ترضية السفارات التي أدت بالبلد إلى التهكلة.
هذه القراءة لا تقدم حلولا سياسية لأحد، ولكنها ترى أن فشل الانقلاب في توليف جمهور يسنده بعد تملكه لسلطات مطلقة يفرض على من يعارضه التحلي بشجاعة كبيرة وروح مغامرة؛ لتجاوز رغبات السفارات وفرض أمر واقع جديد (وثوري) عليها التعامل معه، وخاصة في فرض مكانة في السياسات العامة للإسلاميين الذين صار رفض وجودهم مسألة ذوقية (بلا أطروحة سياسية)؛ يفرض خاصة دلال السفير الفرنسي على النخب المحلية التي كيفت عقولها الشمبانيا الراقية في حفلات السفارة.
حقيقة واضحة لكل ذي عقل، لقد ضمن الإسلاميون بقاء الشارع السياسي الديمقراطي حيا يتنفس، وهم يساهمون من موقع متقدم في استعادة زخم العملية الديمقراطية. وقد آن أوان التوليف معهم (دون استسلام لهم) ودون إقصاء ذوقي. وفي جبهة الخلاص نواة خلاص وجب سقيها بماء الشجاعة والمغامرة، والتخلي عن حسابات السفارات للتقدم من جديد على طريق الديمقراطية وإنهاء الانقلاب. لقد مات الانقلاب يوم 8 أيار/ مايو، وهذه أيام مناسبة للدفن.