نجد ضرورة إعادة طرح سؤال في عمق مسألة فكرية ونفسية في آن واحد، وهي مسألة تمثُّل الناس عامة والنخب خاصة للدولة. كيف يعيشون علاقتهم بهذا الكيان الذي ينتمون إليه بالجغرافيا وبالثقافة، والذي يتدبر حياتهم إذ ولدوا فوجوده؟
سبب التفكير في المسألة أننا نرى الناس يتحركون في المجال العام، ويؤثرون على قرارات الحكومات ويكيّفون سلوكياتهم بطرق لا تشي بانتمائهم إلى جماعة يمكن تسميتها بالشعب أو أبناء الوطن أو مواطني الدولة.
ظهر لنا هذا السلوك الذي سنصمه بأنه سلوك غير منتمٍ، في فعل النقابات، ثم رأيناه يتمدد إلى النخب السياسية، ثم رأيناه يتفشى في سلوك الأفراد اليومي، بحيث تجتمع كل هذه المظاهر لتكشف ازدراء مطلقًا بالتعايش طبق القانون كما تضعه الدولة، وكما يفترض بمواطني شعب واحد أن يلتزموه.
دائرة الرئيس المقربة لا تؤمن بالدولة
كتبنا كثيرًا عن مطلبية النقابات القطاعية ودورها في تخريب العمل النقابي، وفي استنزاف الموازنة العامة بما يفوق طاقتها على الدفع، إلى حين وصول النقابات إلى قرصنة موارد الدولة قبل قبضها من المواطن. لذلك سنؤجل حديث النقابة لنبدأ من دائرة الرئيس المنتخب، طبقًا لقوانين دولة ديمقراطية.
سبب ذلك ما عشناه في الأشهر الأخيرة من أفعال غريبة، لا يمكن توصيفها إلا بألاعيب أشخاص استهانوا بمكانتهم وأدوارهم وقيمة مواقعهم، فغاب عنهم تمثل الدولة كحالة التزام بخير جماعي، فظهر منهم ما يدل على أنهم ليسوا سياسيين يقودون دولة لكل مواطنيها، بل هم أقرب إلى طغمة من غير الرشداء سياسيًّا أو مواطنيًّا.
تشيع دائرة الرئيس أن الوزيرة مديرة مكتبه تتعرض إلى مؤامرة تسمم، ثم يتوقف الأمر عند الإشاعة، كأن تسميم شخص في مكانها وفي دورها أمر هيّن يمكن السكوت عنه.
ثم ينشر أحد قادة حملة الرئيس الانتخابية وثائق ويدلي بتصاريح للإعلام ثم للمحاكم، بأن حملة الرئيس الانتخابية كانت مشبوهة، ويسكت الرئيس ودائرته المقربة كأن المتحدث يعني غير شخص أو هيئة.
ينشر نائب شعب منتخب وثائق مشابهة، تمس من سمعة الرئيس وسلوكه ثم يختفي عن الأنظار، وتسكت التحقيقات البرلمانية عن سلوك النائب ويسكت القضاء، فلا نسمع أثرًا لما قيل ولا عن مصداقية محتواه.
وكانت قمة الأفعال الكافرة بالدولة ما بدر من الرئيس في محفل دولي خارج بلده، إذ حط من قيمته وشكك في قدراته على العمل والنجاح، رغم ظروف البلد التي تحتاج إلى النجدة.
إذا جمعنا هذه الأفعال وكثير يشببها، سنجد خيطًا رابطًا بينها، لا أحد من هؤلاء الفاعلين بمن فيهم الرئيس المنتخب يؤمن بالدولة ويقدر أنه جزء من جماعة اجتماعية، تسمى الشعب التونسي ويتصرف على هذا الأساس.
الانقلابات لعبة مسلية؟
لا يمر شهر في تونس إلا وتسيطر على الساحة رغبة البعض في قطع طريق الديمقراطية بواسطة العسكر أو الأمن، حيث يظن بعضٌ أن حقه في الحكم يمر طبقًا لرغبته الخاصة، وليس لقرار الصندوق الانتخابي، أي صوت الشعب.
يرغب بعضٌ في السلطة، ولكنه لا يذهب إلى الشعب يستفتيه، ولا يتخذ طريق العمل السياسي الديمقراطي الطويل النفس، كما يجري الأمر لدى كل شعب يؤمن بالدولة وليس جزءًا من عصابة، بل يتجه إلى القفز بواسطة العسكر أو الأمن ليقصي غيره ويستولي على الحكم.
وكان آخر المتكلمين في أمر القفز على السلطة، عسكري متقاعد وصل درجة أميرال بحرية ولم يخض حربًا في مياه مالحة، اللهمّ السباحة في حوض مياه عذبة بفيلته الفخمة التي تدبرها بخدمة الدكتاتورية.
برلمانيون منتخبون يخططون لانقلاب، يتكلمون بحماية الدستور وينسقون مع الفاشية الانقلابية المعادية للثورة والدستور الذي أنتجته، ويتآمرون لإلغاء نتائج الصندوق الذي أوصلهم إلى البرلمان. كيف يستقيم هذا؟ إنه علامة كاشفة لعمق الإيمان بالديمقراطية، أي الإيمان بالدولة ذات المؤسسات. لقد انكشف أمامنا أعداء الديمقراطية، أي أعداء الدولة.
لقد قضينا أكثر من 40 سنة في تونس نسمع خطابًا واحدًا، يصدر عمن في السلطة وعمن في معارضتها، فحواه إن الإسلاميين ينافقون الدولة ويزعمون الإيمان بالديمقراطية، وما إيمانهم إلا تقية، فإذا وصلوا إلى الحكم انقلبوا على الديمقراطية وعلى الدولة ومارسوا ممارسة الحزب النازي.
وحلت الديمقراطية بفضل الثورة والشهداء، فإذا بمن كان يرجم الإسلاميين بالتقية الديمقراطية، يسفر عن وجهه الانقلابي بلا قناع. وحتى اللحظة المضطربة التي نعيش لا نرى إلا الإسلاميين حريصين على استمرار التجربة الديمقراطية، لبناء الدولة القوية والعادلة.
هؤلاء الذين يشتهون السلطة بأقصر الطرق لا يؤمنون بالدولة، ولذلك لا فرق بينهم وبين نقابيين يستنزفون الموازنة لمصلحة قطاع مهني دون غيره. ولا فرق بينهم وبين من يتجاوز الضوء الأحمر في الجولان، ويسبب كوارث لمن يجاوره في الطريق.
هل من سبب لهذه الروح الانقلابية؟
فكرة الدولة كما علمناها في دروس الفلسفة وعلم الاجتماع، هي فكرة انتماء جماعي واعٍ بنفسه ويطور نفسه من خلال الدولة، فالانتماء قبول بالتعايش، والرضا مسار تنازلات، لكن ما شهدناه بعد الثورة كشف وجود أفراد يعيشون على الأرض نفسها ولا يفكرون كمواطنين، بل كذوات فردية تهتم بمصالحها الخاصة، بغض النظر عن خسارات الآخرين من حولهم، فهم ليسوا مواطنين معهم وإنما أفرادًا ينافسونهم على الغنيمة.
وأرى هذا نتيجة مباشرة لتربية الدكتاتورية التي لم تغرس الانتماء الجماعي في الناس، فجعلت منهم كائنات أنانية لا تنظر إلى أبعد من مصالحها الخاصة، وكلمة المصلحة العامة لا تعني لهم شيئًا ذا بال.
يفتخر ورثة البورقيبية أن الزعيم صنع المواطن التونسي من غبار من البشر، ولديهم عبارة أثيرة أن الزعيم نزع القمل من رؤوس الشعب التونسي.
وقائع ما بعد الثورة تعصف بهذا الزعم، وتحيله إلى غبار نتن. لم يصنع الزعيم إلا هراء سخيفًا. التونسي الذي رباه بورقيبة لم يرتقِ إلى درجة حيوان اجتماعي، وأطفال بورقيبة هم أول علامة على أفراد وكتل ونقابات قطاعية لا تؤمن بالديمقراطية، أي لا تؤمن بالدولة.
والصعوبات التي يعيشها الناس الآن هي بعض ما أورثهم الزعيم من خصال أنانية (حيث أحب نفسه فاستفرد بغنيمة الحكم لنفسه ولأهله ولمنطقته)، لا تؤمن أبدًا بأنهم في مجتمع يقتضي منهم التنازل للعيش المشترك.
لقد بنى الزعيم دولة كاذبة بمواطن لم يرتقِ إلى المواطنة. وكانت الثورة فاضحة للكذبة الكبرى، ولذلك ستتجه إلى بناء المواطن في الديمقراطية، لكن الطريق طويل والصبر جميل رغم كلفتة الروحية العالية، ونحن الذين نؤمن بالدولة ندفع الآن ثمنًا ثقيلًا.