العيد في تونس هذا العام يشبه عيدا سبق. ديكة الإيديولوجيا أفسدت الحفل. حفل الشواء الإقصائي لا يزال يضوع برائحة اللحم البشري. مرة أخرى ولن تكون الأخيرة في المدة المنظور للأسف الشديد. صراع الإدارة مع العادة أفقد الأمر بريقه الروحي. أفسد الوزير اليساري الذي يضع عينا سياسية على خصم يتملك الطقس ليعيش من كرم المعنى الكامن في التاريخ. الوزير يشتبك بقوة الدولة مع المعنى الأزلي الأعزل من كل سلطة فيلغيه بجرة قلم.لا عيد إلا في حدود خدمة الدولة. معنى حديث للعادة يتكبر على آخر سقط في التقادم بقوة التحديث المنبت. أعطى الوزير لخصمه بإفساد العيد ورقة أخرى في لعبة التنافي المتبادل. الأسرة والبقاء في حلقة الهوايات الأولى حيث الدم والوشيجة والانتماء ما قبل الحداثة القهرية. هكذا يفكر "الضحية" الجذلان بكسر العطلة. له الآن أن يدفع إلى الضوء خلفية القرار الوزاري(انها الحرب على الإسلام). يميل الوزير إلى الفرد منبتا فيوقف الطقس عند حده. التحديث فردانية زاحفة على المعنى الأزلي. تنهمر اللعنات وتختنق الأسرة بقرار الوزير التحديثي بقوة النص والإدارة. استسلم الناس لطقس الذبح مجردا من معنى التضحية فالوقت ضيق. فتحول الأمر إلى وجبة دسمة بديلا عن الإيمان الصافي. المعنى الحسي انتصر مرة أخرى فهو ينتصر غالبا لكن بقوة الدولة الحسية.
فصل آخر في صراع عقيم بين فرقاء السياسة في الوطن الواحد.
قالت الثورة كفوا. فلم يكفوا. إنهم يختلفون المأساة ليجدوا مبررا للخبز الرقيق. ثم يكبرون اسم الدولة لكي لا يظهر هيكلها العظمي الأجرد من حكمة التعايش بين التاريخ واللحظة بحثا عن مستقبل يحضن الجميع ويبني الدولة الديمقراطية الجديدة .
قالت الثورة أسسوا. فلم يؤسسوا. واكتفوا باجترار علكة الهويات القاتلة. كلما سكت عنها أحدهم أيقظها الآخر ليعيد إنتاج الصراع العقيم.
هكذا قرأت قرار وزير التربية اليساري المزمن بتقصير عطلة العيد إلى يومين فقط عوض ثلاثة اعتاد الناس التبسط فيها للعودة إلى الأرياف حيث الجذر الأول للأسرة التونسية وهكذا مرة أخرى عدنا من حيث اعتقدنا أننا انطلقنا نحو القطع مع هذا الصراع السخيف بين الإسلاميين المدافعين عن الطقس الديني عامة وبين اليساري المغرق في حداثة تقطع مع التدين بصيغه الارتدوكسية والشعبية.
يتكامل قرار الوزير مع طريقته في إصلاح التعليم. وهو مطلب من مطالب الثورة. لقد قطع الطريق باحترافية إقصائية على مشاريع كثيرة للإصلاح تقدمت بها تيارات سياسية وشخصيات غير يسارية لكنه قبل وتبنى بسرية مريبة مشروع أصدقائه اليساريين والنقابيين والذي يستعيد في مجمله مشروع محمد الشرفي لتجفيف منابع التدين. بما أوقع كل العمل الإصلاحي المنتظر منذ حقب في نفس الدائرة. لقد أعادنا إلى خيار الإقصاء. أن يكون تعليما على هوى أهل الحداثة التونسية المعطوبة ولا مجال لاستعادة النقاش في ما يراه أهل البلد مصلحة عامة. كتحديد أي اللغات الأجنبية انفع له. وأي الآداب الأجنبية يجب أن تتعلم ناشئته.
لقد أخرجت الثورة نقاش الهوية في تونس من دائرة (مسلم ضد كافر) أو (أصيل ضد تغريبي) كما حوصر سابقا في إطار معركة التنافي المتبادل. وصار نقاش الانتماء إلى الدوائر الجغرافية والسياسية الأقرب فالأقرب في صلب النقاش اليومي على محدوديته. بما في ذلك عناصر الهوية اللغوية والعقدية والتاريخية عامة. وكان هذا مؤذنا بتجاوز الثنائية القديمة وإدخال عناصر جديدة في النقاش بما يوسعه ويخصبه ويحرم في نفس الوقت المستفيدين من الثنائية (التناقض القديم) من الأصل التجاري الذي عاشوا به وألفوا الأحزاب على أساسه.
مثل نقاش طبيعة منوال التنمية ونموذج بناء إدارة جديدة تقوم على الحوكمة الرشيدة وتطوير الحكم المحلي لإعادة بناء النخبة وتفعيل المؤسسات المحلية العديمة الجدوى بفعل مركزية القرار. لكن كثير من الممارسات اليومية لحكومة النداء ووزرائها من اليسار خاصة يستعيدون الملف في كل حركة يقومون بها بما يؤبد هذا الصراع الذي مججناه وتجاوزناه بحثا عن تأسيس جديد ومختلف. بهذه الخلفية سبقت قضية الإرهاب على قضية التنمية رغم ترديد الجميع لمقولاتهم بأن التنمية تقضي على الإرهاب في منابته. والغريب أن ضحايا تعويم ملف التنمية يستسيغون هذا ويقعون في خلط الأوليات فصراع الهويات يسمح لهم بتأليف صفوفهم المضطربة أمام مطلب التنمية الذي هو عنوان الانتماء إلى الثورة.
التأسيس المطلوب والأمل الذي لا يموت.
الوقوع في هذا الصراع والاصطفاف على أساس منه ثم المشاركة فيه أو السكوت عليه. هو خيانة حقيقية للثورة مهما حقرت وصغرت من قبل الإعلام الذي يعاديها ويخشى نتائجها.
مازال للثورة مطالب على الطاولة السياسية وليست في وارد النسيان. تظهر في مناسبات متقطعة ومتباعدة. كاحتجاجات ملف الطاقة (وينو البترول؟) وكرفض قانون المصالحة المغشوشة(مظاهرات 12 -09)(مانيش مسامح). لكن ذلك ليس إلا من قبيل نفخ الجمر حتى لا يتلاشى تحت الرماد إنما المطلب الحقيقي هو تفكيك مركزية السلطة وحرمانها من أدوات التحكم عن بعد في المناطق المفقرة وفرض منوالها الذي يستلحق الفقراء ويذلهم بالسؤال رغم الثروات المتاحة بين أيديهم. ولهذا التفكيك نتيجة مهمة جدا ومطلوبة الآن وهنا هي عملية منهجية (فكرية وقانونية) لتشتيت النخبة المحافظة (في اليسار واليمين) المحيطة بأجهزة الحكم والمستفيدة منها (كالخادم الذليل)
عملت النخبة المحافظة دوما وتعمل بعد على جر الثورة إلى نقاش ما تم تجاوزه من قضايا خلافية ماتت فعلا. وسجنها في قضايا تسترزق منها هذه النخبة وتحشد بها الجمهور. لكن الثورة مصرة على مطالبها والغضب يصَّاعد في النفوس وعليه علامات من التخلي الظاهر عن المشاركة في سياسات إقصائية. والنفور من الشأن العام كما تخطط له حكومات تتابعت وتشابهت دون الجرأة على كسر التقاليد الفكرية (ومن يتبعها من إدارة) التي رانت قبل الثورة.
والآن يقف الجميع أمام الفشل الذريع في إدارة المرحلة التي أريد لها أن تكون مرحلة الاستقرار واستعادة نسق النمو. فنسبة النمو تتجه للصفر (نزول فاضح تحت ما قدرت عليه حكومة الترويكا المرتعشة) وكل القضايا الحيوية (التنموية خاصة) مؤجلة إلى زمن لا يبدو معلوما لأحد وفرض أجندة الإرهاب المصطنع تسيطر على المشهد بعد أن تم شراء ذمم الإعلاميين الفاسدة(وهم وجه من وجوه هذه النخبة المخترقة المرتزقة من فتات السلطة مهما تغير لونها).
بقي الأمل في شارع واع بهذه الصراعات المصطنعة حول تقصير أيام العيد وحول غلق مسجد أو جمعية والتغاضي عن أخرى وطرد أمام ثم العفو عنه.
هذا الشارع يحتاج قيادة تقطع مع الصراعات إياها وتفرض نقاشا جديدا حول القضايا الحيوية التي ينتظرها هذا الشارع. من تلك النقاشات ستولد إدارة جديدة بنخبة جديدة وبمنوال تنموي لا يهتم بعقائد الناس ولا بقياس لحاهم وما إذا كانوا يذهبون إلى المساجد أصلا. هذا هو التأسيس الأول المغدور وهذا هو التأسيس الأبدي لدولة جديدة بعقل جديد بنخبة تفكر خارج كواليس الجامعة الفرنسية. سيكون آخر اهتمام النخب الجديدة القراءة من الأدب الفرنسي وتمجيد موليار أو ديدرو فهم ليسوا إلا أسماء عبرت وتلاشت كآلهة مزيفة.