تونس تحت سماء من رصاص

تونس تدخل في مرحلة طويلة من الصمت المبرمج ومن بكائيات لزجة؛ يرمي فيها كل طرف أسباب الفشل على غيره وينقذ نفسه ويقف عند ذلك. فالخطوة الموالية صارت مكلفة جدّا، لقد استهان التونسيون بحريتهم وفرطوا في احتمال التقدم بالديمقراطية. هذه الآن مرحلة تدبير البقاء بقانون الصمت.

مر الرئيس وأجهزته إلى السرعة القصوى في مكافحة الفساد، وتغيب المعلومات الدقيقة من الملفات عن جدية الخطوات المعلنة وأسانيدها الواقعية. سباق من الإعلانات التي يروجها إعلام مدجّن على طريقة بن علي أو أسوأ من ذلك، والملاحقات القضائية يصدر فيها الإعلام أحكامه قبل القضاء. وقد غلب على الناس في كل مجلس إظهار المباركة لما يجري اجتنابا للأذى مع رفع أصوات الشماتة في الذات وفي الآخرين؛ عاد التونسيون قدريّين، يسلمون مستقبلهم لغيب مجهول.

قانون الصمت

حذرت الهيئة الانتخابية منذ صدور نتائجها من كل محاولة تشكيك في نزاهة الانتخابات، فلم يتكلم أحد حتى من المرشحين الخاسرين في منافسة الرئيس. لا علم لنا بصدور نص قانوني أو ترتيبي يجرم مناقشة النتائج، لكن إنذار الهيئة كان كافيا ليتحول الحديث في السوشيال ميديا إلى أسعار البيض والدجاج. وجد البعض فجأة مهربا في الحديث عن فلسطين، وحوَّل مشاعره المكبوتة تجاه عدو مكشوف، لكن الشأن الوطني صار موضوعا حراما، إلا أن يكون الحديث في دوري كرم القدم أو أحوال الطقس.

لكن قانون الصمت الأكثر تأثيرا لا يتعلق بمناقشة الوضع الراهن، بل يكشف/ يغطي الخوف من المراجعة والسعي إلى الإجابة عن السؤال المزعج من المتسبب في انهيار التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس والعودة إلى حكم الفرد.

هذا السؤال يفتح على سلسلة الأسباب التي أدت إلى انتخابات 2024 بشكلها الذي جرت به وبنتيجتها التي انتهت إليها. عرض سلسلة الأسباب يكشف قائمة المخطئين في حق الديمقراطية، وهذا باب مغلق من قبل المشاركين في جريمة إعدام الحرية في تونس. لذلك، نرى أن الخضوع السريع بلا جدال لتنبيهات الهيئة الانتخابية ليس خوفا منها، بقدر ما هو خشية من أن يبدأ الجمهور في مساءلة المتسببين قبل الوصول إلى هذه النتيجة/المرحلة. لقد وفرت لهم الهيئة ذريعة للصمت فرحبوا.

كان من المتوقع أن تعقب نتيجة الانتخابات أيام صمت لاستيعاب الصدمة، رغم أنها كانت مكشوفة لكل مبصر، وكان من المنتظر أن يتكلم أحدهم لانتشال الجمهور من حيرته، لكن هذا المتكلم صمت في اللحظة التي كان عليه فيها الكلام، كان سيتحول زعيما للمرحلة القادمة ولو من وراء القضبان، ونفسر صمته بغير الجبن بل بيقينه من أن لن يكون له أنصار من أهل السياسة الذين أودوا بالتجربة، وهم كثر وبدرجات مختلفة لم يحددها أحد. وهؤلاء على اختلافهم، متفقون الآن على أنه لن يقوم حلف منهم/ بينهم ضد نتيجة الانتخابات، إنهم يدينون أنفسهم بالصمت إذا يتخاذلون.

سنبحث عن الخير في الشر

ما عهدنا في حكم الفرد خيرا فقد جربناه، لكن مجريات كثيرة تشير إلى نتائج مفيدة للمرحلة، وأول هذه النتائج تصفية جذرية لكل القوى التي خانت معركة الحريات. عجز الشعب التونسي والأحزاب عن مواجهة تغول النقابة لكن الحاكم الفرد ألزمها الصمت، وهي تتخفى منه الآن ويبلغها التهديد بالمزيد؛ لم تعد تفرض الوزراء في الحكومات ولم تعد تغلق الطرقات، ولم تعد تصدر حتى بياناتها التقليدية بنصرة فلسطين، وهي البيانات التي لم تكن تكلفها إلا الورقة بخط اليد. ليس في النقابة من يقر بالدور التخريبي الذي مارسته، وأرّخت له بمذكرات قياداتها المتبجحة، وبعد خمس سنوات أخرى ستكون النقابة ذكرى.

موت النقابة يعني موت التيارات السياسية التي كانت تتخفى داخلها وتأخذ قسطا من الحكم بلا قاعدة جماهيرية، وأجد في هذا خيرا لتونس ولو بعد عشر سنوات. لن يحتاج أحد أي جملة في النقد الذاتي من النقابة، أما الحزيبات المتخفية في النقابة فمصيرها الفناء.

قانون موت النقابة سيجري على الأحزاب التي حكمت وخضعت للنقابة، عندما كانت مواجهتها بقوة ضرورة لحماية الحريات وحماية تجربة بناء الديمقراطية. مهادنة النقابة انتهت بمن هادنها أو ارتعب أمامها إلى الموت مثلها أو قبلها، وستعاد صياغة قانون الأحزاب والجمعيات في أجل متوقع لن يتجاوز 2025، بحيث ينهي الحاكم الفرد كل الأجسام الوسيطة طبقا لنظريته في الحكم كما وضعها في دستوره الخاص. لن يجد معترضا على برنامجه السياسي، خاصة وهو شخص لا يفاوض بل يفرض.

الانفلات الجمعياتي الذي ظهر بعد 2011 سيتم لجمه ثم تفكيكه، ولن يعيش التونسيون جدالا في حق المتعريات في تعرية أجسادهن في الشوارع. كثير من هذه الجمعيات كانت أدوات خارجية تتموّل من الخارج وتستهين بثقافة الناس، وكانت نتيجة انفلاتها تدمير هوامش الحرية. وقد انتبهنا في الإبان إلى أن ناشطي مثل هذه الجمعيات قد قفزوا إلى باريس، وحصلوا على حق اللجوء بعد 25 تموز/ يوليو، لقد انتهت مهمتهم، وقد دمروا الحريات إذا أفحشوا في استعمالها؛ سيتهمون الشعب بالجهل من قلب عاصمة الأنوار/ مكّتهم المقدسة.

أولئك الكسالى ينتظرون الجوع ليحرك لهم شوارع جائعة ومحبطة، فيقفزون إلى ثورتها كما في 2011 ويعلنون قيادة الجماهير سيفقدون أملهم بالتدريج؛ لن تكون هناك جماهير جائعة في الشوارع لتقدم أرواحها لنخبة المقاهي، لقد فهم الجمهور وأغلق عليه باب بيته، وتنتظره أيام صعبة لتدبير معاشه.

من سيبقى في الساحة؟ لقد كانت ساحة مقفرة من الفعل والإنجاز ومليئة بالرغاء والرغوة، انكشف الوهم وماتت السياسة القديمة التي ورثت عما قبل 2011، واستمرت بلا مراجعات جذرية بناءة، وهي الآن تدخل مرحلة تنظيف الطاولة لبدء حياة سياسية جديدة بلا سياسة.

انتهت نخبة تونس الكلاسيكية وانتهت أساليبها، وفقد خطابها معناه، وماتت قبل الأجل شخصيات طالما شحنت الأذهان بالحديث وقلة الفعل. لم تؤمن هذه الشخصيات بالحرية فعلا، لذلك فرطت فيها بسهولة، وهذه مرحلة دفع أثمان العبث بالحرية.

هل في هذا خير؟ أنا أرى فيه خيرا كثيرا، إنه الحريق الذي سيقضي على الأشجار الهرِمة لتنبت بذور من رمادها في زمن قد لا ندركه إلا بالتمني. لم يغلق قيس سعيد قوس الربيع العربي في تونس، لقد أغلقته قبله النخب الكافرة بالحرية، وسلمته المفاتيح وسيحكم مطمئنا.

ستكون مرحلة 2024-2029 مرحلة تصفية نخبة تونس المستنفدة، شخصيات وأفكارا وأساليب عمل. ماذا سيخرج من هذه المرحلة التي قد تمتد إلى 29-34؟ لا يمكننا التوقع بسهولة، فالنخبة المحتضرة لم تفشل في الحكم والمعارضة فحسب، بل فشلت في إعداد بديلها المستقبلي، وسينبت هذا البديل من خارجها، وهذا يقين

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات