تكلم رئيس البرلمان التونسي بلهجة واثقة بأن الانقلاب زائل والبرلمان عائد، أحب من أحب وكره من كره. ولم تسعفنا الوقائع ولا التسريبات الضنينة بمعرفة ما في يد رئيس البرلمان ليتحدث هذا الحديث اليقيني، لذلك نميل إلى تصنيف الخطاب في باب المناكفة الفاقدة للوسيلة، أي أنه أقرب إلى الضغط السياسي منه إلى برنامج تحرك ميداني مقتدر بذاته على تغيير واقع الانقلاب على الأرض. في المقابل، نتابع المنقلب يتحرك بأريحية وينفذ برنامجه بإيقاعه الخاص، دون أن يعير أهمية كبيرة لمن يعارضه أو يظهر خشية على مصير البلد.
وهذا يعيدنا إلى قراءة سبقت بأن الانقلاب باق ويتمدد، وبقاؤه وثقته في نفسه ليست ناتجة عن وسائل فعالة بين يديه بقدر ما تعود إلى معرفته اليقينية بفرقة معارضيه وتشتت مواقفهم في مواجهته، لذلك عنونا الورقة بالقول إنه يعيش رغم ضيق التنفس.
فرقة المعارضة أوضح من قوة الانقلاب
يكفي أن نقول إن معارضة الانقلاب في حقيقتها معارضات متعددة لتظهر لنا الفرقة، فهؤلاء المعارضون لا يجمعون جهودهم في مواجهته والاستعداد لاحتمالات ما بعد الانقلاب. إن ما بعد الانقلاب أسوأ عند بعضهم من الانقلاب والمنقلب وعبثه بالدولة، حيث يتوقعون أن العودة إلى المسار السياسي الديمقراطي، سواء بعودة الشرعية البرلمانية والانطلاق منها لاستعادة الصندوق الانتخابي وما يعنيه من مشاركة سياسية أو بفرض وقائع جديدة تتجاوز البرلمان وتنتهي باستعادة الصندوق، هي بوابة قانونية وسياسية مشروعة لعودة الغريم السياسي (أو العدو) الإسلامي إلى مشهد تعددي غير إقصائي.
هؤلاء لا يتفقون في إيمانهم بالديمقراطية التي اعتدى عليها الانقلاب، لذلك يتلذذون بما يجري ما دامت نتيجته الظاهرة إقصاء من لم يفلحوا بإقصائه بالوسيلة الديمقراطية. في قرارة موقفهم أن الانقلاب يقدم لهم خدمة جليلة، وإن لم يذهب إلى شن حرب ابن علي الماحقة على الإسلاميين. وقد ودوا ذلك، ولكن في كل خير لهم والانقلاب يعرف ذلك ويمكن لنفسه.
إنهم يشاهدون معا كيف اختار الانقلاب مجموعة من الشخصيات من غير ذوي الخبرة السياسية ومن غير الأكفاء لإدارة الولايات التي عزل ولاتها (محافظيها)، وأغلبهم من النهضة، لكن ما دام المعزول نهضويا فلا بأس أن يتولى من بعده أيا كان. هذا الموقف الإقصائي (الشامت) يتجلى بوضوح في موقف النقابة التي وقفت بالمرصاد لكل شخصية إدارية أو سياسية عليها شبهة نهضوية تتولى منصبا في الدولة، فلا تهدأ إضراباتها إلا بعزله، لكنها الآن تراقب صامتة ونجزم أنها تستمتع بما يجري. إن جوهر هذا الموقف هو تحفيز الانقلاب على المضي في مشروعه.
يتحدث البعض عن موقفين داخل النقابة؛ أحدهما غير راض عما يجري، ولكن على فرضية وجود هذا الموقف فهو أضعف من أن يوجه قرار النقابة ويضعها ضد الانقلاب، ولذلك نرجح أنها التمثيلية المعتادة لتوزيع الأدوار بين قيادة النقابة (لعبة الشرطي الطيب والشرطي الشرير). وخلف موقف النقابة يكمن فريق سياسي متعدد الرؤوس ينتظر دوما أن تعطي النقابة الإيعاز بالحركة ليتخذوا موقفهم، وأبرز هؤلاء حزب حركة الشعب وحزب التيار والحزب الجمهوري، وطيف واسع من الشخصيات تنظر إلى العالم من ثقب مفتاح باب النقابة. أما احتمال بناء موقف جماعي مع النهضة المعارض للانقلاب فهذا هو الثالث المرفوع.
النهضة في شتاء دافئ؟
يبدو الحزب مطمئنا، وقد زاد في طمأنينته تصريح الغنوشي الواثق عن عودة البرلمان. ولم يجبنا أحد عن السؤال: ماذا بين أيديهم ليبنوا هذه الثقة؟ هل يتحسسون موقفا دوليا مساندا لموقفهم الشرعي؟ ولكن منذ متى كان للضغط الدولي تأثير مباشر على وضع داخلي، خاصة وأن كل هذا الجيل السياسي عاش ينتظر أن يحسم الموقف الدولي مصير نظام ابن علي، فلم ينالوا إلا الوهم حتى الساعة الأخيرة التي حسمها شارع ثائر بعفوية؟ هناك مبالغة في قراءة ما جرى في السودان على أنه عودة إلى الديمقراطية، في حين أن الجيش لا يزال سيد الموقف (ديمقراطية في أفريقيا تساندها فرنسا.. يا للعجب).
هل تغير موقف القوة الصلبة في تونس (الجيش والأمن) من الانقلاب؟ المحاكمات العسكرية والتضييق على الحريات وتصيد المدونين بتهم ثلب الرئيس؛ لا تدل على أي تحول في الموقف يمكن قراءته كإعلان نهاية للانقلاب. إذن لماذا هذه الثقة المفرطة؟
التفسير الوحيد الممكن في غياب معلومات (سرية أو كواليس مطلعة) هو انتظار فعل الأزمة في تقويض قدرة الانقلاب على الاستمرار، وربما الاستبشار بوصول متحول كورونا الجديد من جنوب أفريقيا إلى شمالها، ليضاعف من ارتباك الانقلاب في المواجهة. هل نعتبر هذا موقفا سياسيا أخلاقيا؟
هناك حتى الآن مؤشرات ثابتة على أن الحزب قد نجا من حرب استئصال، وأن تفككه لم يكن بالعمق المؤذي لبنيانه. وهذه أوراق قوة توزن لما بعد الانقلاب مقارنة خاصة بجمود أو تفكك بقية التشكيلات السياسية وفقدانها لسمعتها في الشارع، بالنظر إلى إسنادها للانقلاب ثم تراجعها الظاهر بما كشف هشاشة سياسية تترجم عدم الإيمان الفعلي بالديمقراطية، وهذا أيضا له وزن لما بعد الانقلاب.
الإيقاع البطيء في تحريك الشارع يكشف طمأنينة مفرطة لا نجد لها أسبابا وجيهة سوى أن الحزب لا يريد دفع ثمن إسقاط الانقلاب ما لم يستوثق من شركائه بعده. ولا نرى للحزب شركاء مهما غالى خطاب الاستبشار بجماعة "مواطنون ضد الانقلاب"، فهؤلاء لم يتحركوا خارج إيقاع حزب النهضة. إننا نراهم قلة صادقة، ولكن بلا جمهور حقيقي يسير وراءهم.
الانقلاب مصاب بالربو
إنه يتنفس بصعوبة كما قائده المدخن المزمن.. سرعته محدودة وهو يلهث وراء وقائع صغيرة تؤذيه أكثر مما تساهم في استقراره، على غرار تعيين المحافظين من غير ذوي الكفاءة. لكن للربو علاجات كثيرة تديم أنفاس المصاب ولا تجدد رئتيه. نراه يسعى جاهدا للسيطرة على القضاء، وهذا مقتل، لكن في القضاء دخلاء كثر يمكن استعمالهم كما في الأمن وفي الجيش وفي الإدارة، حيث أن جيش الموظفين يبدو غير مهتم بمن يحكم ما دام قادرا على تدبر رواتب جارية.
الربو يصيب البلد برمته، وأول المصابين معارضوه الذين اعتقدوا أنهم بمنجاة، ويحتاج العقلاء الآن إلى تخفيض سقف التوقعات المتفائلة بقرب زواله. سندخل مرحلة لا غالب ولا مغلوب؛ إلا البلد الذي يتقهقر على سلم الديمقراطية وعلى سلم النماء الاقتصادي.
هناك شارع بلا ديمقراطيين مؤمنين بالديمقراطية، وهناك انقلاب يعرف ذلك ويستفيد منه، مع بقشيش إضافي؛ فاستفحال الأزمة الذي يظنه المعارضون واقعا على كاهل الانقلاب وحده يقع في النهاية عليهم إذا ظنوا أنهم سيحكمون من بعده. فكأني أسمع المنقلب يقول في قصره: "أعمق الأزمة حتى تأتوني طائعين وتعينونني عليها، فإذا لم تأتوا ستقع على رؤوسكم من بعدي، وإذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
هل يستحق هذا الشعب هذه العذابات؟ هذا ليس سؤالا لتحقير الشعب، ولكن الشعب الذي يعبث به منذ سنوات طويلة إعلامي جاهل لا يحسن تركيب جملة مفيدة؛ يحتاج وقتا أطول في الأزمة ليعيها ويتحرك دون إذن النخبة.