ما من معلومة دقيقة، ولكن مؤشرات تترادف على أن حل الأزمة التونسية لم يعد بيد التونسيين، وحده الرئيس المنقلب وجوقته لا يسمّون الأزمة باسمها ويمعنون في غيهم الغبي حاملين الوضع إلى كارثة. لم نكن ننتظر مفاجأة في انتخابات المنقلب بدوريها، فقد ظهرت النتيجة منذ الاستشارة وتأكدت في الاستفتاء على الدستور الأخرق، ولم تكن نسبة المشاركة في دوري الانتخابات إلا إثبات نتيجة مكشوفة سلفا.
فقدَ الانقلاب كل شرعية ولن نخوض هنا في أن المقاطعة كانت موجهة لكل السياسة ولكل السياسيين، فهذه تعزية يروجها الخاسرون وليست موضوعنا، إنما نتابع ما يجري حولنا ونجد مؤشرات تدويل. سنحاول تركيب الصورة في آخر الشهر الأول من سنة 2023.
السفارة الأمريكية تدخل مجال النفود الفرنسي
هي من الزيارات النادرة وربما تتم لأول مرة بمثل هذا الوضوح، وفد من السفارة الأمريكية يزور وزارة التربية ويتحدث عن دعم تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية والثانوية، ووعود بمساعدات فنية وأخرى مالية تلوّح بأن تعليم الإنجليزية سيكون بمقابل مالي، على خلاف ما كان يجري به الأمر في تعليم الفرنسية حيث ينفق التونسيون من ضرائبهم على تعلم اللغة الفرنسية.
نفس الوفد زار وزارة الثقافة ولوّح بوعود مشابهة أو مطابقة. ومن المعلوم من تاريخ تونس بالضرورة أن مجالات الثقافة والتعليم بكل درجاته كانت منطقة نفوذ فرنسي لم تفلح أي حكومة في المساس بها. وقد سجلنا أن أول زيارة قام بها السفير الفرنسي الحالي بعد تنصيبه كانت إلى وزارة التعليم وخرج من مكتب الوزير بتعديل حصص المقرر اللغوي، حيث فاقت ساعات تدريس الفرنسية ساعات تعليم اللغة العربية.
عقب زيارة الوفد الأمريكي تم تعديل وزاري حل بمقتضاه عضو من تنفيذي النقابة (وهي من هي في أدوات النفوذ الفرنسي) وزيرا للتربية خلفا للوزير الذي رضي بالحديث مع الوفد الأمريكي. وقد يتأكد ظننا بتعديل قريب في وزارة الثقافة. (لعلنا نشهد مشروع صناعة نخبة أمريكية في تونس تقلب الوضع ضد نخبة متفرنسة صُنعت على مدى قرنين، وهذا مشروع طويل الأمد).
في كل الحالات فإن السفارات تتجرأ على الحديث مع الوزارات التنفيذية منفردة دون العبور بمكتب الرئيس، الذي يبدو أطرشا في زفة، وقد كتبنا سابقا أنه لم يعد يعني شيئا لأحد إلا باستكمال شكليات الإمضاء على مقررات مملاة عليه. هل هذه بداية تدويل للحل التونسي؟
نقرأها بهذا المعنى ما لم نرَ المنقلب يتحرك لحماية حكومته ببرنامج سياسي واقتصادي يقطع مع تدخل السفارات في مكاتب حكومته. وأنَّى له؟
ترضية العسكر بمناصب في الإدارة؟
المفتش العام للجيش يعيَّن وزيرا على وزارة حساسة في أسوأ سنوات الجفاف في تونس، وهي من الحالات النادرة في تاريخ التعيينات في الإدارة المدنية منذ تأسيس الدولة. هذا التعيين قابل للقراءة من زاوية سياسية.
فالمتدول إلى درجة اليقين أن الجيش التونسي يحظى بدعم أمريكي كبير في التدريب والتسليح والتمويل، ويقال في تونس إن الجيش هو يد الأمريكيين في تونس، وهي المنطقة التي لا تدخلها فرنسا، لكن المعلوم أيضا أن قيادات الصف الأول من الجيش تجاوزت سن المعاش ويرفض الرئيس قبول طلبات تقاعدها، ومنها الضابط الذي عُين على الوزارة، بما يسمح بالتأويل التالي:
يجري الآن ضمن خطة أمريكية ترضية القيادات المسنّة بمناصب إدارية دون عزلها بالقوة (أو إهانتها)، وفسح المجال أمام قيادات الصف الثاني الذي ينتظر فرصته لإعادة موقعة الجيش في دائرة الفعل السياسي بقيادات شابة تؤدي دورا مختلفا.
هل تصل المهمة الجديدة إلى عزل الرئيس؟ هذا تأويل مفرط لا يختلف عن انقلاب عسكري، ولا نظن الجيش يذهب إلى هذه المهمة (لا برغبته ولا بأمر أمريكي)، لكن نرجح أن قيادات شابة لا تدخل الخدمة في موقع متقدم لمجرد إسناد انقلاب فاقد للشرعية، خاصة بعد نتيجة الانتخابات التي أفقدت الجميع أملهم في إصلاح داخلي دون ضجة أو دماء.
الصورة يمكن أن تتشكل كما يلي: الأمريكيون يتقدمون نحو تعديلات متدرجة في التنفيذي دون المساس برأس النظام بشكل مباشر، ودون تغيير شكل الدولة (الفني/ الفلاحة) والثقافي (التربية والثقافة)، متجاوزين بذلك المنقلب وحكومته العاجزة عن القرار ومتجاوزين المعارضة أيضا ومتجاهلين حركتها البطيئة بأسلوب الشارع السلمي الذي لم يؤثر على الانقلاب، وقاطعين الطريق على النفوذ الفرنسي الذي يتعامل مع البلد كحوز خاص موروث. فإذا صار لهم ثقل في الحكومة يتولون تنفيذ خطط الإصلاح التي يرغبون فيها بيد اختاروها بأنفسهم، فيحاصرون المنقلب دون المساس بشخصه ربما حتى نهاية مدته، وطبعا دون النظر بأي تقدير لبرلمانه الصوري الذي ازدهى بانتخابه كأنه اكتشف الديمقراطية لأول مرة، ودون الرجوع إلى أية قوة معارضة ولو كانت تملك الشارع. وأعني هنا حزب النهضة الذي سيعيش بسلام ولا يشارك في الحكم (وهو الموقع المقرر له أمريكيا).
هذا السيناريو يغير دون ضجة ودون هز أركان الدولة، ودون التورط في تمويل انقلاب عسكري لن يجد من يحميه، إنه كوتشينغ جديد نظن أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية تختاره على التدخل المباشر. هل أفرطنا في التأويل؟ ننتظر ونرى.
الطليان ضمنوا حصتهم في المنطقة والمرحلة
بالتوازي هناك حركة دولية تجري في المنطقة، أبرزها حركة رئيسة الحكومة الإيطالية التي تنقلت بين ليبيا والجزائر، وضمنت حصة وافرة في النفط والغاز الليبيين وأعادت تمتين روابطها مع الغاز الجزائري، وهو ما قطع أمل شركة توتال الفرنسية خاصة في ليبيا. ولا نظنها تحركت دون تنسيق مع الراعي الأمريكي للمنطقة. (وهناك حديث كثير عن توافق في المواقف بين الإيطاليين والأتراك والأمريكيين على تقاسم مغانم المنطقة، وهو حديث مقبول في ليبيا خاصة لجهة قطع اليد الفرنسية التي تحاول التمدد في المنطقة).
وبالنظر إلى العلاقات التاريخية بين ليبيا وتونس، فإن كل انفراج في الوضع الليبي سينتج استقرارا ينال من خيره التونسيون عملا وتجارة، وربما شراكات اقتصادية تخفف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس دون أن تكلف الأمريكيين عناء ماليا، فيكون حلا من المنطقة لا يضطر تونس إلى اقتراض كبير أو حتى مشروع مارشال مصغر كما يحلم بذلك بعض التونسيين المتحمسين لحل أمريكي (وهو حلم يخرج من خيال سياسي كسول).
هل هذا هو التدويل السياسي للأزمة؟ نعم هكذا نؤوّل ما يجري أمامنا مع علمنا بأن المعطيات غير كافية لوصف تدويل تقليدي، فلا أحد في ما نرى يريد حمل كلفة بلد ضعيف وهش وغير مجد سياسيا وإن كانت له فائدة عسكرية استراتيجية. إنه تغيير متدرج من الداخل بوسائل داخلية أساسا، تعزل المنقلب بالتدريج وتفرض عليه حكومة طيّعة للخارج الأمريكي خاصة (مع بعض الفائدة/ الرشوة لمن يحالفه مثل الأتراك والقطريين التجار)، وتستبعد التعطيل الفرنسي دون معاداته بشكل صريح. وتنتظر النتائج على مدى متوسط دون أن ينهار البلد أو يقع في حالة إفلاس لبنانية أو يونانية؛ تغيير بأقل كلفة ممكنة وخروج متدرج من الأزمة دون ضجة التحولات الجذرية التي لا يمكن توقع نتائجها ويعسر تبريرها.
هل أفرطنا في التأويل؟ نعم لكننا في موضع من فقد يده ويود أن يتناول فطوره بيد مستعارة. وما أكثر الأيادي التي تمتد لوجبة التونسي الذي ضيّع بلده في مهاترات النخب الاستئصالية، أعني اليد الفرنسية التي تشغل بالمجان عند الخارجية الفرنسية.