من المسلمات الأولية في التحليل المادي التاريخي، أن أطراف الصراع الاجتماعي (الطبقات أو الشرائح الاجتماعية) تتخذ أغطية من فكر لتبرر مواقعها أو تحميها إذا شعرت بخطر زاحف. مع تراكم المصالح، تتحول الأفكار إلى مبررات تكسب صفة المرجعية، وتتحول الفئات الاجتماعية إلى حكم وقاض يعرف فقط أن يحمي مصالحه بواسطة تبريراته المتشابهة. من هذه الزاوية، يمكن إعادة النظر في تموقع النخب العربية إزاء الربيع العربي. سنجد تفسيرا لكثير من نكوص النخب الجامعية ونخبا مثقفة من خارج الأكاديميا وقفت بقوة ضد كل احتمالات التغيير التي وعد بها الربيع العربي، سواء في تونس أو مصر، وهما نموذجان لردة النخب عن الثورة.
هذه الأيام نتابع مناورة مثقفين تونسيين لإعادة تعريف موقفهم من الإسلام السياسي، فيظهرون قبولا كأنه تسامح وقبول، وما هو بذلك، إذ نعتقد أن المواقف الجديدة هي إعادة صياغة لنفس المضامين المتخفية خلف أطروحات الحداثة والتقدمية، وما هي في الحقيقة إلا منافحة عن مصالح مكتسبة من زمن ما قبل الثورة يوشك الإسلامي القادم من بعيد أن يأخذ له منها قسطا؛ فيحرم أصحابها ويضيق عليهم.
هل توجد ثقافة مرجعية يحتكم إليها؟
إحدى أكبر الحيل النخبوية المستعملة في الحوز الاقتصادي للمنفعة؛ هي اعتبار الموقف الثقافي الشخصي مرجعا أعلى على ثقافات الآخرين المتنوعة. يضع المثقف الحداثي نفسه مرجعا، ويحكم على غيره بالرجعية.
المثقف الحداثي نصب نفسه حكما على مخالفيه واحتكر لنفسه صفة التقدمية، وقال بأنه يملك الحكمة التي لم تتيسر لغيره. ففنه هو الفن وأدبه هو الأدب، وموسيقاه هي الموسيقى، ولا إبداع خارج مرجعيته. من زاوية ابستمولوجية، فإن هذا الموقف لا يختلف في شيء عن نمط تفكير الفرقة الناجية عند تاريخ الإسلام، فهو منطق فرعوني (لا أريكم إلا ما أرى).
هذا التفكير له شيوخه أيضا، فهم من يظهرون الآن في الصورة ويعطون الإيعاز بسياسات فكرية جديدة توهم المتابع بأن هناك تطورا في المواقف الفكرية، وخاصة لجهة قبول الإسلام السياسي والتعامل معه كجزء من وطن مشترك.
ويبدو هؤلاء الشيوخ واثقين جدا من أطروحتهم الجديدة، فهم مالكو الفن والأدب والثقافة عامة، ولا خوف على الثقافة من أن يقترب منها إسلامي، فهو إذا فعل سيموت لأنه (وهذا عمق الأطروحة) إسلامي لا علاقة له أبدا بالثقافة، بل هو ميت ثقافيا، فتديّنه (إسلامه) قتل فيه الثقافة والإبداع، وبالتالي إذا فتح له المثقف الحداثي الباب فهم كأنما يفتح له باب الموت. وهكذا يطمئن قلب الحداثي، إذ يكون قد جر الإسلامي إلى موته دون أن يرهق نفسه بقتله. هل يعزي الحداثي نفسه بهذا الطرح الديمقراطي الجديد؟ أم أن تحليله العلمي قد أودى به إلى هذه النقطة البعيدة الغور الاستراتيجي؟ لكن قبل ذلك كيف يرى الإسلامي نفسه إزاء الثقافة؟
الإسلامي والثقافة الحداثية سوء فهم كبير
بعد الثورة وظهور الإسلاميين في تونس كشركاء في مشهد سياسي تعددي، قُدمت أعمال فنية تجرأت على المشترك الأخلاقي المحافظ (كما لم تفعل أبدا في زمن الدكتاتورية)، مثل وضع منحوتات لأجساد نسوية عارية، ومثل ظهور ممثلين عراة على ركح بعض المسارح، فضلا عن جرأة في تناول السينما لقضايا الجنس والعري، وهي مواضيع محرجة لكل متدين محافظ.
قرأ الإسلاميون ذلك كاستفزاز موجه لهم بشكل شخصي (خاصة وأن مقدميها كانوا خُرْسا زمن الدكتاتورية)، بينما برر منتجو تلك الأعمال أعمالهم تحت يافطة حرية التعبير والضمير. فانكشف سوء التفاهم الكبير بين ثقافة حداثية نبذت أخلاق المجتمع ومراجعه، وبين ثقافة تقدم المرجعيات الأخلاقية على التعبير الفني، فكأن هذين المرجعين لا يلتقيان أبدا في تونس. وانحصر النقاش حول الفن في الأخلاق والأخلاق في الفن، فمال إسلاميون إلى التكفير باسم الأخلاق، ومال الحداثيون إلى تكفير آخر باسم الحرية.
في هذا الصراع (سوء التفاهم التاريخي) لم يقدم الإسلاميون بعد (وقد لا يفعلون أبدا) أطروحة ثقافية مجددة تخرج من ثقافة التحريم وتقبل تعبيرات حداثية من ثقافات العالم، وكل منتجهم حتى الآن نسج على منوال لم يؤسسوه، مثل مشاركتهم في إنتاج غناء ملتزم في سنوات ما قبل المحرقة التونسية لمضاهاة فن يساري، مثل فن مارسيل خليفة أو الشيخ إمام.. وهذه من المعضلات التي تعانيها تيارات الإسلام السياسي منذ التأسيسي، والتي بررت تأخرها فيها بالمعاناة والتشريد. وهو تبرير لا يستقيم، فاليسار العربي (وهو جزء من تيار الحداثة الذي يطارد الإسلاميين في كل مكان) أيضا طورد وشرد وأبدع من داخل معاناته.
هل يمكن تأسيس منوال إسلامي في مجال الثقافة؟ هذا سؤال خطير، بقطع النظر عن إجابة الحداثي التي فصلنا فيها القول أعلاه؛ لأنه سيؤدي إلى اجتهاد في الأصول لا في الفروع. ومن الأصول الثابتة أن الفن أمر دنيوي يفسد حياة المؤمن المتأهب دوما لفراق دنيا فانية نحو الخلود، وكل ما يلهي المؤمن عن عبادته مرذول، ولو تم تبريره بالنضال السياسي من أجل قيم مقدسة كالعدالة والحرية. طبعا، تاريخ الفنون في الإسلام لا يسعف الإسلامي الحديث باجتهاد غير تلك التلبية اليتيمة التي قالها أبو نواس (الفاسق).
هذه الورطة الاجتهادية في الأصول زينت للحداثي التقدمي أن الإسلامي الرجعي سيموت قبل أن يخرج منها، وأفضل طريقة لقتله هي فرض هذا النقاش عليه ليرتد إلى التكفير فيلفظه الناس انتخابيا، وتنجو أطروحة الحداثة وأصحابها، وتنجو خاصة قائمة منافعهم التي يتوزعونها من جيب الدولة.
النقاش يخفي منظومة مصالح
أثناء اتهام الإسلامي بأنه فقير ثقافيا أو ميت، استولى الحداثيون على مؤسسات الثقافة الرسمية، وبالتحديد شبكات المنفعة في وزارة الثقافة والتربية، وأغلبها لجان دعم توزع أموالا على منتسبي تيار واحد، بينما لا يحلم أي شخص ذي هوى إسلامي بالحصول على دعم سينمائي أو أدبي أو مسرحي. وهكذا نعود إلى نقطة بدائية الصراع القائم في جوهره صراع على منافع وليس صراعا بين أطروحات ثقافية. فالإسلامي يمكنه تقليد الحداثي في مجالات لا يتماسّ فيها الدين والحرية (دون أن يحرج عقله بالاجتهاد في الأصول).
يتحدث إسلاميون كثرا عن نموذج السينما الإيرانية التي تناولت قضايا ملتصقة بحياة الناس، واجتنبت المساس بعقائدهم وأخلاقهم الإسلامية. كما يقرأ إسلاميون كثر روائيا حداثيا مثل عبد الرحمن منيف، ويجدون فيه نموذج حداثة متخلقا، ويرون أنه يمكن الكتابة مثله دون إباحية في اللغة أو الصور الأدبية. يستخلصون أن الفن متعدد وليس على منوال الحداثي التونسي المتفرنس. (هنا ينقلون المعركة فعلا إلى صف الحداثيين الذين يستعيرون النموذج الفرنسي كاملا بكل عريه).
في هذه الحالة الإصلاحية (حيث يبتعد الإسلامي عن مناقشة أسس العلاقة بين الفن والدين) يجد الحداثي، المالك الفعلي لأموال الثقافة، نفسه أمام منافس خطير. فالعدد هنا أيضا يهدد الحداثي والإسلاميون يتعلمون بسرعة مخيفة، ويمكنهم أن ينافسوا بقوة إذا وجدت لجان محايدة، وهنا لا وجود لحياد. المعركة في جوهرها تموقع نخبوي إزاء المنفعة التي توزعها الدولة. من دعم كتاب بملاليم إلى دعم فيلم بمئات الملايين. ولن نتحدث عن الجامعة ولجانها؛ خوفا من اللجان نفسها.
كيف تسربت إذن أطروحة قتل الإسلاميين بالحداثة الثقافية؟ خطة بسيطة من عنصرين أولا الطرق المستمر على رؤوسهم بأنهم غير مؤهلين ثقافيا بحكم تدينهم المتخلف. وثانيا قطع الجسور بينهم وبين التمويل الثقافي العمومي.. وجارٍ تطبيق الخطة. لكن ثمة أمر مهم، فكما سقطت دعاية عاشت أربعين عاما من عداء الإسلاميين للمرأة (وقد كانت أهم ورقة انتخابية في 2011) قد تسقط دعاية عداء الإسلاميين للثقافة والحداثة وساعتها، سيكون قد فات الأوان على الحداثي؛ لأن الإسلامي يكون قد دخل عليه معقله الأخير.