والآن ماذا سيحصل؟ هذا سؤال يرافق حالات الغموض وتضاعِفُ وقعه الأخبار المتضاربة، حيث يعمل الجميع على دعم موقفه بإرباك خصومه وأعدائه.
الجماهير في الشوارع من الصفَّين ليس لديها علم بالخطوات القادمة التي تُدبَّر بعيدًا عنها، لكنها تستطيب تخيُّل أحلامها تتحقق، وعندما تستفيق تكون الأرض قد تغيّرت تحت أقدامها.
هناك تغيير حصل وستكون له نتائج قريبة وأخرى بعيدة المدى، والمرئي حتى الآن هو انتقال كل أدوات السلطة إلى يد الرئيس، وهو يتحرّك مطمئنًا إلى ذلك ويفرض أمرًا واقعًا.
أما التغيرات البعيدة المدى فستكون عميقة، وستتّجه إلى إلغاء دستور 2014 والنظام البرلماني المختلط الذي أرساه، وهذا هو هدف الرئيس الخاص ضمن الحركة التي قام بها، ولا نراه ينشغل كثيرًا بالمسائل الاقتصادية والصحّية التي سيكلِّف بها حكومةً على هواه.
إسقاط دستور 2014 سيفتح له باب البقاء في السلطة إلى أجلٍ يحدِّده هو لا الدورات الانتخابية، وسيكون صف المبرّراتية جاهزًا لقول كل الكبائر الدستورية في الزمن القادم.
فتح منطقة تفاوض
بعد هيجان الأسبوع الأول، ستبدأ موجة المتحمّسين في الانحسار وتزدهر التحليلات المستريحة. تنعدم مؤشرات فتح أبواب البرلمان لدخول النوّاب ورئيسهم (أي عودة البرلمان إلى الانعقاد)، وسيبقى أنصار البرلمان في الشارع يتناقصون بقدر ما تتقدّم مفاوضات غير مباشرة للإجابة عن سؤال "ماذا بعد؟".
الرسائل ربما تُرسَل الآن إلى الرئيس المنتصِر، ولكن سيصمّ أذنَيه حتى يفرض حكومة الأمر الواقع، وستكون مناوشات سياسية وربما أمنية في أماكن مختلفة، لكنها لن تصل إلى حدّ إثارة الشارع والعودة إلى ما قبل 25 يوليو/ تموز.
التفاوض حول ماذا ومن يكون المفاوضون؟ إذا اختصرنا الصورة في الأشخاص فالتفاوض سيكون بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان، وإذا وسّعناها فسيكون بين صفّ المدافعين عن الدستور القائلين بخطأ الرئيس في تأويل المادة 80 منه، والرئيس وصفّه المهلِّل لقراراته.
صف أنصار الدستور واسع، ولكنه مختلف وبينه ضغائن، فكثيرون ضد الرئيس وضد رئيس البرلمان وحزبه في الوقت نفسه، ما يمنع أي لقاء محتمَل حول لائحة سياسية موحَّدة وواضحة (يفترض أن تكون تشكلت جبهة حول الدستور لكنها تتأخر ولا نراها في الأفق).
فأي تراجع من الرئيس تحت الضغط سيُحسب في مكاسب الغنوشي، وبالتالي إن هذا الطرف لن يكون بقوة العدد الذي يقف وراءه، ولا بقيمة الشخصيات الاعتبارية التي قد تشارك فيه بشكل مباشر أو غير مباشر.
بينما يبدو صف الرئيس منسجمًا حول شخصه وقراراته، وهو يملك بين يدَيه أدوات الحكم الليّنة (الحكومة) والقوة (الجيش والأمن).
موضوع التفاوض هو العودة إلى الحالة العادية، أي حالة الدستور القائم وإنهاء الاستثناء وإعادة مسارات الحكم إلى وضع دستوري، لكن ستكون هناك معطيات جديدة على الأرض، أهمها حكومة معيّنة من الرئيس لا يمكن إعادة التفاوض حولها (أي سلطة تنفيذية كاملة بيد الرئيس، قد تتسع حتى تلتهم صلاحيات الهيئة الانتخابية والعودة إلى انتخابات تحت إشراف وزارة الداخلية).
في الوضع العادي يعود الغنوشي إلى منصبه، ويعود حزبه لتشكيل أغلبيته البرلمانية القديمة، وهذا وضع خطير على الحكومة القائمة بالتعيين دون نفي احتمال عزل الرئيس، فضلًا عن إنهاء الحديث عن كل تعديل دستوري.
لن يقبل الرئيس بعَودٍ إلى وضع عادي، وهنا تُفتح أبواب التفاوض على مرحلة جديدة لا تستنقص فيها صلاحيات الرئيس التي حازها الآن، لكن على أي أساس دستوري سيحكم إذا لم تلغَ ضوابط الحكم التي كبّلته سابقًا، والتي أعلن رفضه لها دومًا؟
تعديل الدستور سيكون الموضوع الوحيد للتفاوض القادم
سنفترض أن البرلمان عاد إلى الانعقاد (وهو احتمال ضعيف جدًّا)، تحت ضغوط دولية وأممية تحدثت عن لزوم التزام القانون واحترام المؤسسات، إلّا إن الرئيس لن يسمح بعودة البرلمان إلى العمل إلا بشروط واضحة لن تعوزه القدرة على وضعها، فمن الواضح أنه لا يشتغل بمفرده وإنما بفريق كامل من المشرّعين المنسجمين مع خطّه وفكرته.
شروط الرئيس ستكون ضمانات قوية (تحت التهديد ومحاكمات تجري بالتوازي، خاصة لقيادات نهضوية ربما يكون على رأسهم رئيس البرلمان نفسه، وقد رُفعت عنه الحصانة) بتعديل سريع (نظن أنه جاهز) لكُلّ الفصول الدستورية المتعلِّقة أولًا بصلاحيات رئيس مطلق اليد، وثانيًا بتغيير النظام السياسي وتوزيع السلطات وتعديل القانون الانتخابي الذي سيفتح باب انتخابات قادمة، تضمن للرئيس وصول أنصاره إلى برلمان جديد يمكّنه من حكم رئاسي تامّ.
هل يملك رئيس البرلمان وأنصار الدستور المختلفين ورقات تفاوضية حول الطاولة للتفاوض؟ يملك رئيس البرلمان جزءًا كبيرًا من الشارع يمكن إثارته، لكن تهمة العنف ستكون جاهزة تكبّله، فيصمت خاصة وهو في مواجهة الجيش وليس الأمن فقط، حيث يمكن تشتيت صفه بمحاكمات على طريقة بن علي.
خلاصة الأمر؛ لن يكون هناك عودة إلى وضع 25 يوليو/ تموز، ولن يعود العمل بدستور 2014، ولن يجد أنصار الدستور فرصةً للتكلم باسمه أو محاولة فرضه بقوة الشارع.
أجل الشهر سينتهي بحقائق جديدة على الأرض، أهمها أن الرئيس ملكَ زمام الأمر برمته وسيفرض ما يريد، وما هذا التأجيل إلا لربح الوقت، فالخطة أكبر من تجاوز ظرف عصيب.
هذا هو الاحتمال الأسوأ، وأرجو أن تكذّبني الوقائع.