هذه الورقة أقرب إلى النقد الذاتي منها إلى كل تحليل أو كلام مستند إلى خبرة ما. لما بلغنا خبر انقلاب مالي لم نجد في مراجع إعلامية عربية مكتوبة معلومات شافية عن الوضع في مالي باستثناء مقالات مدونين أفارقة يكتبون بالعربية عن الحراك المالي وتجاهل العرب له.
هذه حادثة أخرى من ضمن وقائع كثيرة تستجد في إفريقيا ولا نوليها اهتمامًا كافيًا، وتتضح أمامي صورة بائسة لعلاقة الشعوب العربية بشعوب إفريقيا السوداء، وأجد أنني جزء من هذه الصورة فما أنا إلا من غزية.
وعلى خلاف المراجع العربية كانت الصحافة الفرنسية تكتب عن التفاصيل الصغيرة من وجهة نظر دولة الاحتلال وتروج لدور فرنسي سلمي يرافق بناء الدول الإفريقية. السؤال الممض عربيًا: إذا كانت الأنظمة الرسمية متخلية عن إفريقيا فأين الشعوب؟ ويزداد السؤال إلحاحًا عن شعوب البلدان التي شهدت موجة الربيع العربي الأولى وقلدها الحراك المالي في صيف إفريقي لا يرحم، تحمل فيه الضنك من أجل تغيير سلمي حتى جاء الانقلاب محاولًا قطف الثمرة ليفرغ الحراك الشعبي من زخمه.
ميراث تاريخي بغيض
مارس العرب تجارة العبيد (ولا فخر لهم على بلدان التجارة المثلثة) واحتفظ الكثير منهم بشعور تفوق غير إنساني على الإفريقي الأسود، ورغم تقادم العهد فإن المخزون العنصري يسفر عن وجهه في مواضع كثيرة ويبدو أن لا يزال يحكم العلاقة ضمنيًا، فالإفريقي لا يستقبل بنفس الحفاوة التي يستقبل بها الأوروبي في بلدان عربية كثيرة.
هذه الرؤية المنحرفة عن معايير الإنسانية رغم حديث الإسلام عن أن الناس سواسية كأسنان المشط تحكم في تقديرنا اهتمامنا بإفريقيا وما يقع على أرضها وما تفعل شعوبها، لذلك لم نهتم بالحراك المالي، ولن نولي أهمية لأي حراك شعبي آخر ستشهده حتمًا شعوب إفريقية تفطنت إلى قوتها وحاجتها إلى الانعتاق من ربقة الاحتلال الغربي والفرنسي منه خاصة.
كان هناك حديث يروج عن اهتمام الأنظمة العربية ذات يوم بإفريقيا وخاصة نظام ناصر، لكن لم ينتج عن هذا الاهتمام بناء علاقات اقتصادية دائمة وفعالة، فبقي اهتمامًا ضعيفًا لا يوازي حجمه في الإعلام المصري الدعائي، ثم تلاشي بنهاية الناصرية وانكفأت مصر وبقية العرب على أنفسهم يتحدثون عن مآسيهم أو يديرون معاركهم في وسائل الإعلام وخرجت إفريقيا من اهتمامهم، فلا يتذكرونها إلا إذا دخل نظام إفريقي في علاقة تطبيع مع الكيان الصهيوني، فينددون بموقفه ويتأسفون على الخذلان وينددون بالاختراق الصهيوني، ثم ينسون كأن شيئًا لم يقع، ومحاولة الدكتور منصف المرزوقي في ربط الاقتصاد التونسي والعربي بالاقتصادات الإفريقية كانت آخر محاولة جدية وأحبطت من داخل تونس قبل أن تنجح في إحداث اختراقات في إفريقيا على المستوى الاقتصادي والسياسي، وكانت آخر محاولة سجلت في عمل الأنظمة أعقبها استعمال السيسي للاتحاد الإفريقي لتبرير انقلابه على الديمقراطية (من اللغو المفسد للحديث هنا تذكر ملك ملوك إفريقيا والعالم).
الشعوب مقصرة في التواصل والتضامن
لكن بقطع النظر عن تقصير الأنظمة العربية الرسمية الفاسدة فإننا نجد الشعوب أيضًا مقصرة في بناء هذه العلاقات على المستوى الثقافي والسياسي والنضالي في قضايا توحد الشعوب حتمًا، فالجميع ضحية الاحتلال الغربي الذي دمر وما زال اقتصادها وثقافتها وحولها إلى أفواج من الهجرة السرية المغامرة على ألواح بالية في بحر صار مقبرة إفريقية بامتياز.
مهرجانات السينما (أيام قرطاج السينمائية ومهرجان القاهرة ومهرجان واغدوغو) أحدثت اختراقات، لكن في عالم فقير محتل ومقموع يصير الاختراق الثقافي رفاه لا تحتاجه الشعوب بنفس القدر الذي يسعد به المثقفون وأهل السينما والفنون، ودون امتهان هذه النوافذ فإن القناعة الثابتة أن شعوبًا إفريقيةً كثيرةً لا تزال تخوض معركة تحررها الوطني (لا نجد فرقًا كبيرًا مع البلدان العربية المحتلة ضمنًا)، لذلك فإن أولوية التضامن السياسي والنضالي مشابهة لمعركة التحرر الوطني التي قادت سياسات الخمسينات من الاحتلال المباشر الكفيلة ببناء شبكة تواصل شعبي حقيقي.
هنا ظهر الفراغ وانقلاب مالي عينة من غياب الاهتمام الشعبي العربي بإفريقيا ونتيجته غياب المعلومة الدقيقة إلا من مصادر غربية لها أجندتها الاحتلالية المعادية قطعًا لمصالح الشعوب.
توجد تنظيرات عن أن إفريقيا مستقبل العرب لكنها أقرب إلى روايات الرومانسية الثورية، حتى إنها تصل إلى القول إن العرب مستقبل إفريقيا، فالفكرة ذاهبة في اتجاه واحد ولذلك فهي مبينة على استغلال لا يختلف كثيرًا عن تجارة العبيد. (اذهب إلى إفريقيا فهي بلدان غنيمة).
هذا التجاهل العربي لإفريقيا لا ينتبه من غرور وصلف أو جهل وعجز إلى أن بلدان إفريقية مختلفة تتقدم على طريق التنمية والتحرر، فالعالم يتناقل أخبار رواندا بانبهار والأرقام المقارنة تخجل كل بلد عربي على حدة ويجب أن تخجل منها الشعوب الحنجورية قبل الأنظمة.
لنتواضع لإفريقيا
قد يكون التواضع مدخلًا للتكفير عن تجارة العبيد، فإفريقيا فقيرة بعد ولكنها لم تعد تبيع أولادها لقوافل النخاسين، إفريقيا تعلمت وتتعلم وتشعر بالضيم وتكافح ولا تحتاج تعاطف البيض عربًا كانوا أو غربيين.
لنتوقف عن الشفقة على إفريقيا ولنتهم بما يجري في زواياها المتعددة، حتى الآن تعتبر جملة (إفريقيا مستقبل العالم) جملة تبشيرية أقرب إلى الجمل الدعائية السياحية، لكنها ستتحول إلى واقع ونعتبر من خلال متابعة إعلامية للحراك المالي رغم الانقلاب الذي يحاول قطف نتيجته والساعات القليلة التي أعقبته أن الشعب الذي كابد الصيف الإفريقي في الميادين لن يتخلى عن وعيه بالمستقبل.
لن يكون ذلك غدًا، لكن إذا سارت أمور العرب مع إفريقيا بالشكل الذي سارت عليه منذ تجارة العبيد، فإننا نتوقع زمنًا قريبًا يسافر فيه الشاب العربي بحثًا عن العمل في إفريقيا، وقد يتعرض إلى ردود فعل عنصرية مشحونة بثأر تاريخي لم يحسن الاعتذار منه في زمن يسمح بالاعتذار.