أزمة كورونا بصدد أخذ حصتها من الشعب التونسي كما أخذت من جيرانه، لكنها لن تفنيه كما لم تفن جيرانه. في الأثناء نعتقد أنها ستقدم له درسا قاسيا بثمن مكلف من الأرواح، وهذا الدرس هو أن حكومة الإدارة التونسية أو ما يسمى مجازا بحكومة التكنوقراط هي وهم الخلاص الأخير من السياسة؛ سيستفيق منه الجميع على الحقيقة بأن الرئيس الذي قطع طريق السياسة بفكرة حكومة الإداريين قد أودى بهم، وأنه سيكون أول من يدفع ثمن الورطة التي تحصد الأرواح. وهو الذي سيضع شاهدة على قبر الدولة الوطنية.
حكومة تستدرك ولا تستبق
أول الكارثة قرار تكنوقراطي بفتح الحدود في نهاية شهر حزيران/ يونيو. لقد افتخر التونسيون بنجاحهم في مواجهة الموجة الأولى من الوباء، وكان القرار الطبي يقود القرار السياسي في انسجام تام. فُتحت الحدود بدعوى تنشيط الاقتصاد عبر تنشيط السياحة التي تجلب الربح السريع.. لم يأت السياح وجاء الوباء. كانت يد السلطة قد ارتخت وقطعت الصلة بالأطباء، رغم أن الوزير الناجح كان يصرخ وهو يغادر محذرا من موجة ثانية في شهر تسعة (أيلول/ سبتمبر). لقد خرب التونسيون بيتهم بيدهم. لكن أي تونسيين؟ إنها حكومة نخبة الإدارة التونسية.
حكومة تستدرك ولا تستبق، سقطت هيبتها من نفوس الناس حتى أنها عجزت عن إغلاق المقاهي لمنع الاختلاط المكثف. تُصدر القرار فيُسقطه نادل في المقهى (وهذا مثل من ضمن سقطات كثيرة). يقول النادل ليس لدي بديل رزق غير عملي.. تعرف الحكومة ذلك فتتراجع. نعم ليس لديها مال، ولم تكن ذات مال في الموجة الأولى أيضا، لكنها دعت الناس فتحمّسوا وتبرعوا للصحة العامة، حتى تبين لهم أنهم في الزمن الذي كانوا يدفعون من قوتهم للحكومة كان رئيس الحكومة يستولي على المال العام بطرق تكنوقراطية متطورة. حصل شرخ رهيب في رصيد الثقة المتبقية للحكومات القادمة.
كيف تمكن إعادة بناء الثقة في أجهزة حكم موصومة بالتحايل؟ نظن أن هذه معضلة سياسة لا تنكشف بكل أبعادها لمن يروم بعدُ الانكباب على الشأن العام بالفعل أو بالتحليل.
تسييس الناس لا تيئيسهم
نضع صورتين لوزيرين للصحة؛ واحد يبكي لألم الناس الذين لم يصل إلى علاجهم، وآخر يكلمهم بصوت روبوت متطور: ستصابون جميعكم ولو كنتم خلف بروج مشيدة. هما صورتان لطريقتين في الحكم؛ الوزارة السياسية ووزارة الإدارة (أو حكومة الروبوتات القانونية). الوزير السياسي حفّز الناس وقدم رأي العلماء، والوزير التكنوقراط توقف حتى عن إصدار المعلومات حول الحالة الوبائية بحجة عدم إرباك الاقتصاد بتخويف الناس. لكن الناس يتساقطون على الطريق.
من جاء بهذه الحكومة التي تتحرك كروبوت بلا قلب ولا دموع؟ هذه حكومة الرئيس. إنها على صورته وبصوته، وبوجهه الخالي من كل تعبير. لقد قطع طريق الأحزاب ليفرض حكومة الإدارة والنتائج ماثلة أمامه. تتحمل الأحزاب التي وافقت على هذه الحكومة قسطا كبيرا من مسؤولية ما يجري. فبحجة اجتناب الفوضى وعدم ترك البلد بلا حكومة؛ جاءت حكومة بالفوضى، حتى أنها تعجز عن إغلاق مقهى. الرئيس الكاريكاتوري دفعنا إلى وضع كاريكاتوري، ولكن هل كانت حكومة سياسية ستقوم بعمل أفضل في مواجهة الموجة الثانية؟
قبل الإجابة وجب أن ننتبه إلى حالة اليأس العامة التي جعلت الناس يتخلون عن حماية أنفسهم بشكل انتحاري. يذهبون إلى عملهم بشعور أنها المرة الأخيرة، ويجلسون في المقاهي المفتوحة على أنها القهوة الأخيرة، ويضحكون ساخرين ممن ما زال يصدق فعالية الكمامة الواقية، لذلك يتخلون إلا قليلا.
لقد دمرت الحكومة أمل الناس في البقاء أحياء، لذلك يغامرون وحدهم في مواجهة الوباء بلا سلاح، ويعتمدون على جملة واحدة: الأمور بيد الله (مولاها ربي). حالة اليأس الانتحاري ستدفع الناس المحبطين إلى محاسبة المسؤولين عن دمارهم في وقت قريب، وأرقام الموتى ستتحول إلى محفز قوي وسريع الالتهاب، فمن يلتقط الإشارة سينجو. وأعني هنا السياسيين الكامنين كما تكمن جرثومة في جسد وراء فشل الحكومة، ليفوزوا إذا سقطت.
المسؤوليات متساوية
لا أحد في ما أرى بريء مما يجري، فيصيب الناس بالدمار النفسي قبل الصحي، بقدر الموقع والدور ستكون المسؤولية وسيكون الثمن.
الرئيس الذي فرض خياره مرتين فكان خيارا فاسدا، والأحزاب التي تخاصمت حتى فشلت، والنقابات التي سكنت في جسد الإدارة فحولتها إلى طاعون مطلبي، حتى أن نقابات الصحة تطرد المرضى من المشافي خشية العدوى.. كل هؤلاء مسؤولون بأقدار، لكن هل يمكن تخيل كيف سيكون الحساب؟
لا نميل إلى تخيل تلك الصورة الرومانسية عن ثورة الشعب الجائع المفقر الذي يخرج بصدور عارية لمواجهة رصاص الدولة الظالمة.. هذه بقية من مشهد ألف للخداع السينمائي. نميل إلى رؤية شعب يعيش بلا حكومة، ولا يقدم أي اعتبار للسياسة، ويتجه إلى الحل الفردي في كل مأرب يقضيه. بما يجعل الدولة وعاء فارغا من كل سلطة أدبية وأخلاقية، ويجعل السياسيين مسخرة مهما علا شأنهم.
قد تكون هذه جملة استباقية ولكني أزعم رؤية إرهاصاتها: الشعب التونسي يتجه إلى حالة اللادولة. ليس بالمعنى الذي بسطه بيار كلاستر، لكن بمعنى انتهاء الشعور بالوجود الجماعي المولد للروح الجماعية التي تفتح أبواب التعايش لتلبية الحاجات وتغطيتها بغطاء عاطفي. إنها حالة من الالتقاء الغريزي. والغزيرة هي النقيض المباشر للدولة بصفتها مسار تنازلات مشتركة من أجل عيش مشترك ودائم في السلم.
موظف الصحة الذي يغلق باب المشفى في وجه المرضى بتحريض نقابي هو كائن غريزي، وقائد القطار الذي يوقف القطارات في أيام العود المدرسي مطالبا بخروف العيد هو كائن غريزي، ورئيس الحكومة الذي يدعو الناس إلى التبرع فيما هو يسرق شركات الدولة هو كائن غريزي.. قبل هؤلاء منح طبيب مثقف ألف شهادة طبيبة لأشخاص على أنهم جرحي ثورة في مدينة لم تقم فيها مظاهرة.
هؤلاء لا يمكنهم أبدا تأليف دولة لأنهم ليسوا شعبا، ربما كانوا كذلك لفترة قصيرة. وربما يكون في ما أكتب يقظة لغريزة الخوف من أن أكون بلا دولة، ولكن الدلائل الكثيرة التي أجمعها مما أرى تنتهي بالتحليل إلى نهاية دولة قتلت الروح الجماعية في شعبها. لم يعد شعبها لأنها لم تكن دولته. هل كانت كذلك ذات يوم؟
سيكتب أحدهم في وقت غير بعيد: لقد خلق الشعب التونسي وهم دولة وعاش به سبعين عاما، حتى أفاق من وهمه على غريزة حب البقاء. هذه النخبة الغريزية وفي مقدمها الرئيس هي بنت وهم الدولة. كورونا يشتغل بطريقة الانتخاب الطبيعي، حيث البقاء للأقوى.
مرحبا بكورونا حررنا من وهم الدولة الوطنية.