من مقعد المتفرجين نطلب من المقاومة أن تطهر غزة من الصهاينة والعملاء والخونة ثم تندفع كالسيل العرم نحو القدس فتحررها ثم تنظف الأرض المحتلة فلا تترك فيها أثرا من صهيون، ثم نرتاح نحن في مقاعدنا ونقول لو كانت حماس قوية فعلا لحررت مصر من عسكرها، ونضيف إليها مطالب قد يكون منها أن تمسك لنا ما يكفينا من سمكة التونة العنيدة. ماذا لو لم تحقق المقاومة شيئا من هذه المطالب؟ لقد بدأنا نسمع حديثا عن هزيمة المقاومة وعدم تحقيق الأهداف المطلوبة عربيا لا فلسطينيا. سنضع هذه الاحتمالات على الطاولة لنكشف مقاولي الهزائم.
حديث مشبوه
حديث هزيمة المقاومة في غزة حديث مشبوه، يمهد لفعل مشبوه؛ هو التحكم في غزة وإدارة أمر سكانها طبقا لمخطط مملى من العدو يُقصي الفاعل الرئيس في غزة وهو المقاومة وعلى رأسها حماس. بالمناسبة، لننتبه لتفصيل مهم عندما كان الحديث عن قوة ونصر وتأثير إيجابي كان الحديث يسمي المقاومة بكل فصائلها، وعند الحديث عن احتمالات هزيمة أو سوء إدارة يصير الحديث عن حماس فقط، ومن هنا تبدأ النوايا السيئة تجاه غزة وأهلها بعد حرب الطوفان.
قبل ترويج خطاب الفشل لنتذكر ما رفعته المقاومة من مطالب يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر: فك الحصار عن غزة وتحرير الأسرى المعتقلين عند العدو وعدم المساس بالمسجد الأقصى. لم تقل المقاومة بتحرير كل فلسطين وإنهاء الاحتلال، والمطالب الكبرى الثلاث لم تتحقق بعد ولكنها جوهر العملية التفاوضية الجارية، والعدو بدأ يظهر علامات الرضوخ للمقاومة. والمقاومة تفاوض من موقع قوي بدليل رفضها الإملاءات المصرية ثم قطع جلسات التفاوض، ولا يفعل ذلك من كان جيشه من خلفه مهزوما.
هذه المرحلة التي تسبق نهاية معركة تحتاج حذرا كبيرا في تلقي الأخبار وفهم مصادرها، والعدو يستبق بذكاء لم نفلح في مجاراته منذ احتل الأرض وفرض أتباعه في كل قُطر. وفيما ننشغل نحن بعدّ المثلثات الحمراء والصفراء، نراه قد بدأ ترتيب ما بعد انتصاره على أصحاب المثلثات.
الخطوة الأولى في ترتيباته هي إقناعنا بلا دليل بأن المقاومة انهزمت لأنها لم تحرر فلسطين كلها، وأنه صار صاحب الحق في ترتيب ما بعدها في غزة (دون فلسطين)، وما بعدها عنده هو قطع دابر من تسول له نفسه حمل سلاح ضده. هذا الخطاب مضلل لأن من يريد جردة حساب من المقاومة (وهو حق حصري لأهل المقاومة دون أي متفرج مثلنا) فليحاسبها على ما رفعت من مطالب وما وضعت من أهداف وما وضعت بين أيديها من مكاسب.
مقاولو الهزائم
ترتيبات العدو لا تصلنا عن طريقه ولا من إعلامه، لكنها تصلنا من المناولين الراغبين في إنهاء المقاومة والحلول محلها في غزة وفي غير غزة. هؤلاء عرفنا كثيرهم وينكشف لنا قليلهم الباقي، وهم أعداء المقاومة يديرون الآن حرب الجوع في غزة باقتدار ويبكون على أطفال غزة الجياع في تلفازاتهم ويتهمون المقاومة بتجويعهم ويصرخون بهزيمتها. حديث الهزيمة يصدر عنهم وهم يستعدون لإقامة الاحتفالات على جثث أطفال غزة.
لكن بماذا نرد على خطاب مقاولي الهزائم الذين لا ولن يرتقي خيالهم العاجز عن تخيل احتمالات نصر؟
لقد صمدت المقاومة مع طول مدة الحرب التي خاضتها ضد آلة حرب كونية قادرة على محو الإنسان من فوق قشرة الأرض. العالم يشاهد انكسار الجيش الذي لا يقهر ويعرف يقينا أنه واقف حتى الآن بجسر جوي من الأسلحة تصل جنوده مع قهوة الصباح.
ولنفرض جدلا أن المقاومة أعلنت إيقاف القتال من جانبها (ولا نراها تفعل)، ألا تعتبر خسائر جيش الكيان نصرا لم تبلغه الجيوش من قبل، وخاصة جيوش مصر التي منها يصدر حديث هزيمة المقاومة؟
لم يعد لهذا الجيش دبابات سليمة ولم يعد له جنود يرسلهم إلى الجبهة، حتى أنه عاد للتجنيد من صفوف الحريديم وهم مكون يرفض الخدمة العسكرية وقد سلم له بذلك منذ ظهوره. في إعلام العدو نقرأ أن الذهاب إلى حرب في غزة مرة أخرى لم يعد ممكنا ولو قُضي على هذا الجيل من حماس، خبراؤهم يقولون لقد زرعنا في غزة الجيل الذي سيخرجنا من فلسطين. أليس هذا تحقيقا كاملا للمطلب الأول من مطالب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يتحقق أمام أنظار العالم؛ منعة غزة نهائيا؟
ويقولون الثمن البشري مرتفع، نعم إنه كذلك، ومقاولو الهزيمة هم السبب قبل العدو، فهم أدوات الحصار ومنهم أكل العدو كفايته من أفضل الأغذية بينما الغزاوي يموت جوعا، وهم يحسبون عدد الشهداء ويقولون قتلى قبل أن يحسبهم من فقدهم من ذويهم محتسبا. كم على المرء أن يذكرهم بقصص الموت من أجل الحرية في الجزائر وفي فيتنام وفي كوبا وفي مصر نفسها قبل أن يحكموها ويذلوا شعبها؟
ومع ذلك..
تلك الصورة التي نتمناها ونحن "نقزقز اللب" في ليالي رمضان لن تكون، ولا حق لنا فيها لأننا في لحظة الحرب وفي لحظة التفاوض كنا من المتفرجين المزايدين لا نختلف عن مقاولي الهزائم إلا بشيء من الدعاء الافتراضي.
سيكون هناك ألم في التفاوض وسيضطر المفاوض إلى تنازلات وإبرام صفقة أقل مما أعلن في ورقته الأولى، فالوسيط كشف عن وجه عدو بل طلب من المفاوض الفلسطيني ما لم يطلبه العدو المتشدد.
كان العدو متخوفا من التحرك في رمضان في بقية الساحات العربية قبل المسجد الأقصى، فتبين أن خوفه غير مبرر وهو يشاهد الساحات العربية تتغذى جيدا وتنام ملء جفونها وربما تبكي في صلاة التراويح، وذلك البكاء لا يؤثر على المفاوضات الجارية حتى أن مقاولي الهزائم لم يمنعوه.