اعترضتني الصورة المصاحبة على صفحة صديقي عزيز فضلي فاعادتني الى سنة 1994 ... الصورة لقمة جبل عديسة المطل على منتجع حمام بورقيبة (عين دراهم) والمطلة على الجزائر ...كنت في اقامة صحية هناك وحيدا الا من مجاملات عابرة للمقيمين وكنت امر بفترة نفسية لا اود استعادتها ...وكانت خواطر الهجرة تراودني واعاند شوقي الى اهلي ...وخشيتي من الفراق الطويل ودموع امي .
كنت قد صرت موظفا ملتزما بتوقيت اداري اشعرني منذ الايام الاولى اني حيوان في زريبة ...وكان غضب ابي يحلق فوق راسي اذ صرت خديم حاكم ... لم احظ برفيق غرفة تستلذ صحبته كان رجلا مسنا طيبا لكنه نؤوم جدا ويشخر بشكل يستحيل معه النوم ...فهربت بعد رجاء طويل الى البنغالو (وهي مساكن منفردة) فزادت وحشتي …
ذات عشية صعّدت في الجبل وفي يدي كراس رقم 12 وقلم حبر جاف وكانت في راسي خرافة مخيفة ان اصير روائيا كان الخوف من بدء الكتابة يكبلن واحتقر حلمي وارهب الجمل الاولى وكنت قد مزقت ورقات كثيرة من ايام الجامعة …
مررت بالعين الحلوة تحت الجبل واعطاني فلاح هناك تفاحا لم ينضج بعد لكنه كان لذيذا بشكل خرافي ...وصلت والشمس قد صارت في الجزائر ... اعتليت الصخرة الصهباء الكبير ودليت قدمي ملتفتا الى الشمس الجزائرية وكتبت الجملة الاولى ....وكأنما كان النص محشورا في قلم الحبر الجاف حتى اظلمت الدنيا ولم اعد ارى موضع القلم على السطر .... هناك ولدت روايتي الاولى (ريح الايام العادية)…
نجوت من كلاب الدشرة حتى وصلت غرفتي ونسيت ان اتعشى في قهوة الصباح كنت اعيد قراءة ما كتبت وكان الكراس قد نفد حتى الصفحة الاخيرة ...في العشيية عدت بكراس ثان وانهملت ....كانت الرهبة قد زالت ...وقضيت سنة معجبا بنصي لا اغيره ثم كرهته سنة اخرى وعدت احتقر نفسي واقول ما انا الا خديم حاكم وغرقت في قراءة القانون ...انظر الى كراستي من بعيد واخفيهما عن عيني حتى لا اقطعهما ..ثم حنيت كما تحن ناقة الى حوراها فعدت ...ونظفت النص من شوائب وحشو بديعي كنت اظنه من النص ولطفت من قبح وجه بطلي قليلا حتى احببته وانصفت بطلتي فمنحتها لحظة تمرد على مهانة ...لكن وقفت خائفا من احتمال النشر ولكن اعرف ناشرا رغم ان احفظ كل اسماء دور النشر المحلية .
ذات ليلة جمعني صديقي فتحي بن ميمون بصديق فرنسي فانسون جيسار وجاء على ذكر محاولتي الروائية فترجاني ان الخص له النص ففعلت بفرنسية لم اكن اعرف اني احسن استعمالها ..فطلب نسخة مخطوطة ...فوافيته بها بعد زمن ...وجائني الرجل بعد اقل من اسبوع يرقل اخذت لك موعدا مع نور الدين بن خذر في دار سيراس ..وقد اطلع على مخطوطك .
وذهبت وجلا فنور الدين بن خذر اسم مسجل في راسي منذ طفولتي الاولى فأبي كان يعرف اباه وكان يمر بنا قرب بيته ويقول هنا قتل بورقيبة على بن خذر اليوسفي ...على سجادته وهو يصلي (ولم اتحقق ابدا من الرواية التاريخية) لكن ونحن في طفولة الثانوية كنا نسمع عن نور الدين الحامي السجين …
كانت صورته في راس ترهبني …
وكانت اول جلسة لكاتب مع ناشر بل مع ناشرين فقد ضمت الجلسة الاستاذ الصادق بن مهني والاستاذ عبد الواحد براهم ..وخرجت من هناك بعقد نشر ...لم يصدق نور الدين الناشر ان نور الدين الكاتب لم يدخل السجن فحديث السجن في الرواية كان دقيقا كانه معيش وقال لي ما لم استوعب حتى اللحظة هذه روايتي التي لم اكتبها ....كان يجب ان اكتب انا هذا النص ونشرت الرواية سنة 1998 بعد ان حجزها الرقيب ستة اشهر ونوهت بها لجنة الكومار وكنت اختبئ في اخر المسرح خوفا ...من ذكر اسمي في محفل .
امسح عيني اللحظة من شوق ذابح الى ابي والى ناشري والى لحظة الشجاعة الخارقة التي اطلقت سراح قلمي من خوفي ...ثم انهمرت كمطر صيفي حتى بلغت صحبة توفيق بكار ..ونلت اجازته ... لكن في الطريق الى ذلك عثر رئيسي في العمل ذات يوم ماطر على نسخة من (ريح الايام العادية) في كدس كتب قديمة فاشترى نسخة وقطعها ومسح بها حذاءه الوسخ ..وضحك ...وقال في ما لا يليق بهذه الخاطرة .
وبين يدي الان رواية من الف صفحة (رباعية) اخشى ان يذلني احدهم بنشرها ...وهانا انظر اليها كطفل يتيم مطروح على ورق ...واعزي ابطالي ان قد وأدتهم قبل بلوغ القماط …
تلك الصورة من اول الطريق أثارت وحشتي من بقية الطريق فقد جفف الانقلاب روحي …