أؤلف مشهدا رومانسيا لأواجه كم الانحطاط السياسي الذي تنفثه بعض وجوه النخبة المتواطئة على مصالح البلد، وأحذر القارئ من أن يسلم بكل جمال الصورة، فهناك أمور نخفيها حتى لا يشم القارئ رائحة الخيانة.
في المشهد الرومانسي صورة شاحنات الأوكسجين الطبي القادمة من الجزائر لمساعدة مستشفيات تونس على معالجة مرضى كوفيد 19، وفيه صورة رئيس حكومة تونس يركب بجانب رئيس حكومة ليبيا الانتقالية ويخططان لمستقبل البلدين. الأمر المخفي الذي لا أود للقارئ أن يعرفه؛ أن البلدين والجزائر ثالثتهما يحتاجون بعد إلى الشركات الفرنسية التي تحتكر صناعة الأوكسجين الطبي. لكن لنبقى في الصورة الحالمة، عسى أن نتنفس هواء نقيا في لحظة الكتابة على الأقل.
أخيرا عرفنا طريق طرابلس
منذ سقوط نظام القذافي انتظرنا انفتاحا اقتصاديا منهجيا بين تونس وليبيا، يتجاوز ما كان سابقا من اضطراب في العلاقة كان سببه الرئيسي مزاج العقيد المختل. أجلت الحرب في ليبيا كل الآمال وعطلت كل حركة تقارب، وقد انكشف أن احتمال تعاون ثورتي تونس وليبيا في المجالات الاقتصادية سينقذ البلدين ويضعهما على سكة النمو والتطور. هذا الاحتمال دفع أعداء الثورتين إلى تخريب كل أمل في تحققه. وهؤلاء الأعداء ليسوا فقط الإمارات ونظام السيسي المعادين للثورات العربية، بل ظهر أعداء في الداخل التونسي وضعوا كل رهاناتهم على المنشق حفتر واشتغلوا طابورا خامسا له، وعطلوا كل اقتراب بين تونس وطرابلس، وكان آخر الملتحقين بطابور حفتر هو الرئيس التونسي المنتخب شعبيا.
لكن عودة الاستقرار إلى ليبيا أعاد بناء الأمل في التعاون المثمر. حاول الرئيس قطع هذه الطريق بزيارة مفاجئة إلى طرابلس لم ينتج عنها أي فائدة لتونس، وربما نتحصل في يوم قريب على ما يثبت أنه ذهب يبحث عن حصة للشركات الفرنسية في إعادة إعمار ليبيا، وهو الخبر الذي خرج من طرابلس بعد الزيارة مباشرة.
لم يغلق الليبيون الباب بعد الزيارة الفاشلة وانتظروا قدوم رئيس الحكومة، وقد تمت بفريق اقتصادي وسياسي واجتماعي. وتبدو الأخبار واعدة ببدء تعاون دائم وكثيف وعميق يمس كل مناحي الحياة، وقد كان المشهد البروتوكولي مستبشرا ومبشرا بالكثير.
مجالات التعاون بين البلدين كبيرة
في منطقة الحلم نقول إن البلدين واحد يفصلهما خط حدودي وهمي سطره الاحتلال الفرنسي، وظل قائما يقطع شريان الحياة بين الشعب الواحد. في منطقة العمل نجد أن البلدين يحتاجان بعضهما كحاجة اليد إلى أختها لتصفق، أو كحاجة الفكين لبعضهما لمضغ الطعام.
سنة من حكم العقيد المختل عقليا في ليبيا جعلت البلد الغني بموارد الطاقة فقيرا إلى كل أنواع الخدمات، وفي مقدمتها الخدمات الصحية، ولم يجد المرضى الليبيون علاجهم إلا في تونس. لذلك كنا نشاهد حتى في زمن ابن علي الفاسد المرضى الليبيين يتزاحمون على المصحات في تونس. وقد بنوا ثقتهم في الطبيب التونسي، ناهيك عن إسهام كبير قدمه الطب التونسي لعلاج جرحى الثورة وجرحى الحرب الأهلية دون تمييز بين الصفين المتحاربين هناك.
في ما قبل الثورة كان مشهد عبور الشاحنات الليبية محملة بالسلع الحيوية مشهدا مألوفا، فلقد حرم العقيد ليبيا حتى من صناعة ورق التواليت. وفي السنوات العشر الأخيرة كانت هذه الشاحنات تدخل تونس في كل لحظة انفراج على الحدود.
أما ليبيا فقد كانت ومنذ ظهور النفط فيها ملجأ لليد العاملة التونسية، وقد بنى تونسيون كثر بيوتهم من كد يمينهم في ليبيا. واحتفظ الليبيون بذكر طيب للعامل التونسي المحترف والمثابر في أعمال البناء والزراعة وغيرها؛ لا يقل عن سمعة الطبيب التونسي في مجاله.
في هذه اللحظة التاريخية المفصلية يحتاج الصناعي التونسي للتصدير، ويحتاج العامل التونسي للعمل المستقر، وتحتاج ليبيا إلى مواد حيوية تجدها في تونس. لذلك فإن الباب مفتوح لتكامل اقتصادي خلاق بين بلد مصنّع وآخر مستهلك على الأقل في مرحلة إعادة البناء بعد الحرب. ولم يغب هذا عن رئيسي الحكومتين في تفاوضهما المتبسم في الزيارة الأخيرة.
هذه معطيات التاريخ والجغرافيا وهي مطروحة على الورق حتى الآن، والجميع يوزع عبارات التفاؤل، لكن متى ينطلق قطار التعاون فعلا؟
العراقيل كثيرة في الداخل
لقد بدأت مناطق الجنوب التونسي تتنفس، إذ استبقت إلى التجارة الصغرى أو ما يسمى بتجارة الخط (خط طرابلس بن قردان). وانتقلت أعداد كبيرة من العمالة المعطلة إلى ليبيا منذ بداية السنة (كان عدد كبير منهم قد مكث هناك وواصل العمل رغم الحرب). بعض هذا التبادل يتم خارج القانون (عبر مسالك التهريب بما كشف بعض الإخلالات في تزويد السوق التونسية)، لكن العراقيل لن تأتي من عفوية التبادل غير المنظم بل من الطبقة السياسية نفسها.
الصراع السياسي في تونس عقبة حقيقية على هذه الطريق، وابتسامات رئيس الحكومة لن تحل المشاكل. ليس خافيا على أحد أن نجاح حكومة المشيشي في حلحلة الوضع الاقتصادي الكارثي سيثبّت أقدامها ويمكّن لحزامها السياسي، وكل انفراج في الوضع الاجتماعي المتأزم سيكون بمثابة أوكسجين سياسي للحكومة وللحزام الحزبي، وفي مقدمته حزب النهضة الذي يحمل الحكومة على ظهره ويمنعها من السقوط. وهنا تطل المشاكل برأسها، فهناك فيتو فرنسي على نجاح هذه الحكومة.
نجاح الحكومة سيعزل معطليها في الداخل وسيسقط خطابهم الذي يقوم على وصفها بحكومة الفشل. شعور الناس بانفراج الأزمة ولو بحل خارج الحدود سينقل الحديث من البحث في أسباب الفشل إلى العمل على مراكمة النجاح، وسيكون لهذا ثمن سياسي مباشر يجنيه حزام الحكومة في أفق انتخابات تقارب في 2024، بينما سيجني معطلوها فشلهم في الصندوق.
إن الصناعي التونسي الذي لا يعلن لونه السياسي غالبا ويتربص ليقف مع الناجح فقط، وبعد أن كان يخطط لإعلان إفلاسه، يعيد الآن فتح معمله فالسوق قريبة، وسيفكر في أن من فتح له السوق ومن يضمن ديمومتها يستحق البقاء في الحكم لمزيد من الربح في جيبه، وسينتخب مستقبلا على هذا الأساس.
إن البلد هو الرابح في بناء العلاقة الاقتصادية المفيدة والدائمة، لكن البعض يرى نجاح حزب النهضة في الجانب التونسي وربما يرى أيضا الإسناد الإسلامي للحكم في ليبيا، وهذا يعني نهايته السياسية هنا وهناك (يكتب البعض عن سقوط شمال أفريقيا تحت حكم الإخوان). لذلك ومن أجل منع هذا الطرف من الفوز والبقاء وجب تعطيل كل احتمالات النجاح، بمنطق "إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".. إنهم العدميون.
العدميون يخسرون المعركة
بهذا المنطق العدمي وقف المعطلون في طابور حفتر وجعلوه خيارا أول، رغم أنه لم ينفك يصدر تهديداته باجتياح تونس حتى سقط عسكريا. وبهذا المنطق سافر الرئيس إلى ليبيا ليعطل زيارة رئيس الحكومة، ثم إلى فرنسا ليقول إن بلده لا يوفر مناخا استثماريا ملائما. وبهذا المنطق أيضا وصم كل تعاون مع قطر أو تركيا بأنه لا يتم لصالح تونس وإنما لبيع البلد للإخوان المسلمين. وهو حديث نسمعه كل يوم في الإذاعات ونقرأه في السوشيال ميديا، حتى تجرأ البعض وقال إن تمليك الليبيين في تونس هو احتلال ليبي.
هنا نفقد الهواء النقي، ونتذكر أن شمال أفريقيا لا ينتج الأوكسجين لمرضاه بل يمنح كل السوق للشركات الفرنسية، رغم أن صناعة الأوكسجين الطبي ليست صناعة ثقيلة، فمن أجل استمرار الشركات الفرنسية في تحقيق أرباحها وجب قطع الطريق على كل نجاح آخر. هنا نشم رائحة الخيانة، ولا نحتاج إلى جهد كبير لنكشف الصورة كاملة.
من أجل تخريب كل أمل في النجاح ساندت فرنسا (وحلفاؤها من أعداء الربيع العربي) حفتر ومولته، وشجعت أنصاره في تونس على تخريب العلاقة مع ليبيا، وهي لا تزال تعمل على ذلك وطابورها التونسي (المغاربي/ حزب فرنسا) يتكاتف لمزيد التعطيل، لتجني الشركات الفرنسية غنيمتها وتفيض ببعض رشوتها على هذا الطابور، فهو لا يكلفها الكثير، إذ تكفي قهوة مع سفيرها البشوش ليكتب المثقفون الكبار أن ليبيا ستحتل تونس.
سنتدبر جملة أخيرة متفائلة للخاتمة: زيارة المشيشي إلى طرابلس خطوة جبارة في طريق الربيع العربي، والعلاقة بين تونس وليبيا بدأت الآن، وسنصنع الأوكسجين لمرضانا دون حاجة إلى الشركات الفرنسية، وسنصبر على نواح كثير في انتظار الصندوق الانتخابي القريب.