هذا الكلام له خبيء معناه ليست لنا عقول (المعري).
أعطونا برسيما وانتظروا حتى ننهق مع الحمير ثم مرروا صفقتكم، سيكون ذلك أدعى لنجاحها، فأنتم تصنفوننا مع الحمير وعليكم واجب العلف احتراما للطبيعة.
صفقة ترتب في الكواليس للتصدي للانقلاب تقوم على غش صريح، هي صفقة وجهي مقابل جمهورك أو جمهوري مقابل وجهك (وجهان لقطعة نقد زائفة).. أقول هذه صفقة مغشوشة، ولو نجحت فإنها تكون أسوأ من الانقلاب لأنها تستعيد كل أوزار ما قبل 25 تموز/ يوليو، بل ستعطي ألف حجة على وجاهة الانقلاب وتصب الماء في طاحونة أنصاره المهزومين الفاقدين لأي أفق سياسي، وهم يرون الأزمة الاقتصادية تلتهم الانقلاب وتجهز على جمهوره.
صفقة مغشوشة بين غشاشين اثنين
الأول الديمقراطي الكيوت، يدخل الصفقة متظاهرا بالديمقراطية وهو يتبني في العمق موقفا استئصاليا مبنيا على أن النهضوي (الشريك) ليس شريكا بحق كامل في الحكم والمشاركة، بل هو منبوذ متروك ومحتاج إلى حبل نجاة، ووحده الديمقراطي الكيوت يملك أن ينقذه من ورطته التي أوقعه فيها انقلاب وقضى على حظوظه.
هذا الموقف مبني في خلفيته على أن الانقلاب استهدف النهضوي من دون البقية، وادخر البقية من ألوان الطيف السياسي (الفرق الناجية). ومن هنا تأسست عملية الغش أو تسرب الجهل في التحليل، إذ يتجاهل هذا الديمقراطي أن الانقلاب تم على الديمقراطية التي فيها النهضة وفيها هذا الديمقراطي، وكلاهما ضحية انقلاب. ويفترض أن يتضامن الضحايا لا أن يبتزوا بعضهم بعضا، وهذا جوهر الصفقة.
هذا المنطلق التحليلي شامت في حزب النهضة (بمنطق لقد كسرهم الانقلاب فلنغنم ضعفهم)، ويعتقد أنه نجا بجلده وحافظ على طهارته الثورية الديمقراطية، ولذلك انتهى بأصحابه الكيوت إلى أنهم يملكون وحدهم إنقاذ النهضة من ورطتها، ويكفيهم أن يعرضوا على الحركة طاقية الإخفاء الديمقراطي لينقذوها وينهوا بها الانقلاب الذي لا يمكنهم إنهاؤه بمفردهم، دون أن يسألوا أنفسهم عن سبب ضعفهم وقلة حيلتهم الجماهيرية وهم ملاك الديمقراطية والوطنية والثورية الأطهار.
لقد كان هذا التحليل ولا يزال في عمق خطاب الفاشية ومكونات سياسية أخرى انحازت للانقلاب، وأهمها حركة الشعب وحزب التيار (الديمقراطي اسما والوطدي فعلا). وعليه تأسس نقد مرحلة ما قبل 25 تموز/ يوليو الذي يحمّل النهضة وحدها مصائب ما قبل الانقلاب، فهي المسؤول الوحيد عن "العشرية السوداء" منذ الثورة. وعندما ينطلق أي محلل من هذه المسلمة (الجائرة) فإنه يغفل عامدا دور النقابات الإجرامي ودور الفاشية التي عبثت بالبرلمان وكرامة النواب. كما يغفل كل مرحلة حكم النداء (14-19) ودور اعتصام الأرز بالفستق (2013).
ولأن النهضة هي المسؤول الوحيد في خطاب الفاشية والانقلاب فإن عليها حمل الوزر وحدها، ولكن يدخل الديمقراطي في الصورة فيسلم بهذه المقدمة ويقترح المخرج على النهضة المدانة المورطة العاجزة المحاصرة، دون أن ينبس بكلمة واحدة ضد قوى التعفين المنظمة، بما يجعل هؤلاء الديمقراطيين إخوة الفاشية أو ربائبها. وفي كل الأحوال (وإن أحسنا الظن بهم) فهم يبنون على نتائج فعلها ليقترحوا حلا يخدم وجوهم السمحة، تماما كما كان يفعل نواب الكتلة الديمقراطية قبل حل البرلمان حين كانت الفاشية تعبث وهم يباركون ويقطفون النتيجة. إن مقترحهم يصدر عن عقل فاشي واستئصالي، وإن تزيّا بزي ديمقراطي معارض للانقلاب.
الغشاش الثاني هو طرف الصفقة الثاني: حزب النهضة
قبول النهضة بإعارة جمهورها في الصفقة يسلم فعلا لا قولا بالتحليل السابق ويقبل الدنيّة على نفسه، فيخذل قاعدته الصابرة على كل أخطاء القيادة ومناوراتها التي انتهت بها حيث هي الآن. (القيادة التي لا تزال تعيش من ترويج خرافة الضغط الخارجي الخليجي والفرنسي على الحزب وعلى الثورة).
بل أذهب أبعد من ذلك، إنها تجعله فعلا في موضع القطيع الذي يساق إلى صفقات لا يعلم نهايتها ولا بدائلها المضمرة في صورة إسقاط الانقلاب. (ووصف القطيع وصف أطلقه اليسار الاستئصالي على جمهور النهضة مستوردا من مصر عندما كان أزلام مبارك يعلقون البرسيم على باب قصر الرئيس مرسي).
قبول موقع المدان انطلق بتقديم النقد الذاتي دون بقية مكونات كثيرة شاركت في تعفين وضع ما قبل 25 تموز/ يوليو، أولها النقابة والحزيبات الميكروسكوبية، وهو ما سمح للديمقراطيين الكيوت بعرض صفقتهم معولين على انكسار عاطفي مسبق يشق حزب النهضة ويعدم إحساسه بقوته الفعلية وبوجوده كشريك صاحب حق، ويضع نفسه في موضع متلقي الصدقة أو الشفقة السياسية (كأن الانقلاب كسر النهضة وحدها دون البقية).
هل تعي القيادة أين تضع جمهورها بهذه الصفقة؟ أعتقد جازما أن هدف الصفقة ليس إنقاذ الجمهور (الحزب) بل إنقاذ القيادة من ورطة أن تخسر مواقعها، فالانقلاب حشرها في زاوية الخسران وهي ترى نفسها تخرج من باب صغير لا يليق بعظمتها المدّعاة.
ودون خوض في النوايا بلا معلومات من الداخل، فإن موقف الانكسار المسبق هو الذي جعلها تقبل الصفقة على ما فيها من ذلة وعلى ما فيها من غموض ما بعد الانقلاب. ولا أعلم كيف غاب عن هذه القيادة أن من يراودها الآن على الصفقة كان في الصف الذي يحرم عليها نيل رئاسة الجمهورية ووزارات السيادة والثقافة والتربية وحتى الفلاحة، بدعوى أن فرنسا لا تريد رئيسا لتونس من الإسلاميين.
إن الطرف الأول في الصفقة يسلم لفرنسا بحق اختيار الرئيس التونسي، ويفاوض في نفس الوقت هذا الحزب الممنوع من حقوقه على أن يعيد له بعض حقه في الوجود. ولم أر في الصفقات أنذل من هذه الصفقة، فهي بمثابة مفاوضة غريق على حبل نجاة مقابل منح زوجته لمتعة المنقذ قبل إنقاذه.
إن الصفقة التي تقوم على شرط استقالة رئيس البرلمان من منصبه كخطوة أولى للحل هي صفقة استئصالية متواطئة ضد الديمقراطية وضد الدستور. ويشارك فيها ديمقراطيون متشبعون بالنص القانوني والدستوري، ويزعمون بكل وقاحة امتلاك وجه ديمقراطي قادر على تغطية أخطاء النهضة، دون شعور بأي تناقض بين إدانة النهضة الفاشلة والعمل على إنقاذها لتعيد انتاج فشلها (سأسلم جدلا بأنهم سيقبلون بها شريكا لما بعد الانقلاب ويتوقفون عن ابتزازها بفشلها القديم).
وما الحل إذن؟
في غياب نص سياسي مبني على قراءة موضوعية لما قبل 25 تموز/ يوليو وعلى قناعة بأن الانقلاب يستهدف التجربة الديمقراطية برمتها لا حزبا عاملا ضمن مشهد عام، فإن أي صفقة تعقد هي عملية تحايل على جمهور واسع (منهم كاتب النص) يعارض الانقلاب بكل قوة ويؤمن بالعمل السلمي المدني الديمقراطي، ويقبل من حيث المبدأ أن ينضم جنديا عاملا إلى الطيف المعارض، لكن على اتفاق واضح وصريح ينظم ما بعد الانقلاب على قاعدة الدستور وعلى ما يقوله الصندوق الانتخابي. فلا معنى لأن ينتخب التونسي حزب النهضة ليجد بناء على مواقف استئصالية؛ زعيم الحزب الشيوعي (صفر أصوات) وزيرا للزراعة.
كاتب النص ليس في موضع النصيحة لأحد، ولكن لنذكر الديمقراطيين الكيوت بحتمية النقد الذاتي لمواقفهم قبل 25 تموز/ يوليو، وخاصة تواطؤهم ضد نتائج الصندوق الانتخابي في كل المواعيد السابقة، وليبنوا على ذلك في نص صريح بيكون حجر الأساس للعمل السياسي مستقبلا. ونذكر قيادات حزب النهضة بأن الخنوع والاستسلام للخطاب الاستئصالي الذي لا يملك وجودا حقيقيا في الشارع قد أضر بهم، وهذا يخصهم، لكنه أضر قبل ذلك بالعملية الديمقراطية برمتها. فلولا خنوعهم ما كان سمير بالطيب ليصير وزيرا، وما هو إلا مثال من حالات كثيرة.
إن عليهم الاختيار بين أمرين: إما تحمل المسؤولية التاريخية بوجوههم وأسمائهم في التصدي للانقلاب وتحمل الكلفة (وهي مرتفعة نعم)، أو الانسحاب من المشهد بكرامة من عجز ولو كان حسن النية. إن انسحابهم أحفظ للكرامة من بيع جمهورهم الصبور لحفنة من أدعياء الديمقراطية؛ يركبونهم كوسيلة نقل عامة ثم يطردونهم من حمى السلطة كما يطرد بعير أجرب.
أكتب هذا وكلي يقين أنها صرخة في وادي أدعياء الديمقراطية من الشقين، لذلك انتهى إلى قناعة بأن هذه الصف المطعون من داخله لا يمكنه الوقوف بكفاءة أمام الانقلاب، وهو ذاهب ليكون مفاوضا مقنعا للقوى الخارجية المعنية بحالة سلم في تونس لا ترمي إليها بأوساخ بلد فاشل. فليست تونس عندهم إلا بؤرة محتملة للهجرة السرية، بل إن بقاءها دون ديمقراطية حقيقية يجعلها مكبا مفضلا للنفايات السامة.