ندخل في نهاية شهر حزيران/ يونيو معركة أخرى مزيفة في تونس، وستدوم المعركة مدة طويلة لأن الحسم فيها ليس عسكريا. ولن يكون فيها منتصر ومهزوم، بل سيهدر وقت كثير قبل أن يحدث حدث يغيب المعركة ويفتح أخرى بنفس الوسائل والأسلوب.
لقد صارت المعارك المزيفة اختصاصا تونسيا خاصة تحت حكم قيس سعيد. عنوان هذه المعركة السيادة الوطنية، وأحد طرفيها هم عشاق البيادة العسكرية الذين ناصروا انقلاب السيسي على الديمقراطية وناصروا الانقلابي حفتر في ليبيا ويرون بشار زعيما قوميا، ويمنعون وضع الدستور التونسي المدني حيز التنفيذ.
انطلقت المعركة بمكالمة هاتفية بلهجة آمرة وجهتها مسؤولة بالخارجية الأمريكية لرئيس الحكومة هشام المشيشي بوجوب بناء المحكمة الدستورية وبسرعة، فقرأ معارضو الحكومة الأمر كتدخل سافر في الشؤون الداخلية للبلد، بما يجعل رئيس الحكومة ومن ورائه الحزام البرلماني الذي يسنده خونة وعملاء للإمبريالية، وبما يجعل كل جدال منطقي لهذا الموقف تبريرا للخيانة ومشاركة فيها. وعلينا أن نصمت لأن هناك من لا يريد انتخاب أعضاء المحكمة؛ التي هي جزء من الدستور الذي يحكم البلد والذي على أساسه تم انتخابه.
تناقضات بالجملة في مواقف التخوين
هذه المكالمة الهاتفية الأمريكية ليست الأولى، فقد سبقتها مكالمة كامالا هاريس لرئيس الدولة تؤكد على ضرورة استكمال المؤسسات الدستورية، لكن ذلك لم يسترع انتباه أنصار الرئيس، فغضوا الطرف عنها ولم يشعروا بأن السيادة الوطنية مخترقة.
هؤلاء الغيورون على السيادة صمتوا على حدث أفظع، فقد سمعوا ورأوا الرئيس يتحدث عن فترة الاحتلال وتدمير السيادة الوطنية بصفتها مرحلة حماية قانونية مشروعة، حتى أن الرئيس قبّل كتف رئيس دولة الاحتلال في سابقة لم يعرفها البلد منذ استقلاله.
من بعض الغيورين على السيادة في هذه الأيام من أمضى على اتفاق مجهول المحتوى مع الأمريكيين؛ لم يطلع التونسيون على مضمونه، ومنهم من دعا الفرنسيين للتدخل في تونس لحماية الديمقراطية من الإسلاميين، وهؤلاء جميعا وقفوا في صف العسكر المصري وهو يتلقى الأوامر الأمريكية والأوروبية بالانقلاب على الديمقراطية الناشئة في مصر، وهم أنفسهم من يقف بعد مع المنشق حفتر على أمل أن يهزم الثورة الليبية، وهم يرون السلاح الفرنسي والروسي بين يديه ومليشيات فاغنز والجنجويد تحفر المقابر الجماعية في ليبيا؛ فيطالبون برحيل الاحتلال التركي.
لو رغبنا في تتبع تناقضات زاعمي الغيرة على السيادة الوطنية لوجدنا لهم ما به نحبر آلاف الصفحات، لذلك نقول إن هذه الغيرة الناشئة هي نفاق سياسي محض يستهدف الحكومة وحزامها السياسي. في ذات الوقت هذ الحزام لا يجد المخرج القانوني من التعطيل الذي أحدثه الرئيس وحزامه في مجالات مختلفة، منها انتخاب المحكمة الدستورية، ونستشف لديهم ترحيبا بالضغط الخارجي كأنهم يستدعونه، وهذا وجه من وجوه العجز غير القابلة للتبرير.
السؤال الذي لن يجيب عليه المزايدون بالسيادة: هل إلغاء المحكمة الدستورية بدعوى سقوط الآجال يؤسس للسيادة الوطنية ويمنع التدخل الخارجي في شؤون البلد؟ أليست السيادة على الداخل الوطني وعلى العلاقات الخارجية مشروطة بوجود مؤسسات قانونية فاعلة؛ تحل المشاكل الخلافية بإرادة داخلية وتقطع ذرائع التدخل الخارجي؟
لا ننتظر منهم إجابة فهم أعجز من تبرير تأويل الرئيس للقانون الدستور.. إنهم لا يرونه على صواب، لكنهم يعجزون نكاية في خصومهم عن التصريح، فيحولون الأمر إلى مزايدة سياسية تديم الخلاف الداخلي ولا تحله، وهو ما يفتح باب التدخل الخارجي الذي لا نراه يراعي مصالحنا، ولكنه يمهد بخلافنا لمصالحه، وهنا العقدة وحلها.
البراغماتي الأمريكي لا يقيم وزنا للخطاب الأيديولوجي
أمام حالة الاحتباس السياسي الداخلي التي صنعها الرئيس وحزامه، لا يمكننا ونحن نبحث عن مخارج وحلول أن نتعلق بوهم الحب الأمريكي لتونس. ننطلق من يقين واقعي جدا.. الأمريكي يبحث عن مصالحه ويكيّف سياساته على ضوء ذلك، وإذا كان رأى يوما أن وجود أحزاب إسلامية في الحكم في المنطقة العربية يهدد مصالحه فلا نراه يتوقف عند ذلك طويلا، بل نراه يعيد تقدير مصالحه ويغير حلفاءه. لذلك لا نستغرب أن نجده يتحالف ويمد للإسلاميين؛ لا إيمانا بأطروحاتهم، ولكن لأنهم العنصر الأقوى على الساحة ويمكنهم فعل شيء ما يمهد له أولا ويمهد لهم ثانيا، وهم الباحثون عن تشريع وجودهم في ساحة أقصتهم منذ نصف قرن ولم تسمح لهم بالمشاركة، بل لم تسمح لهم بالحياة.
هل سيكون هذا التحالف الأمريكي الإسلامي (وهو تحالف افتراضي بعد) لصالح تونس وبلدان تشبهها (ليبيا ومصر مثلا)؟ الإجابة السهلة هي لا كبيرة، ولكن هل يوجد حل لا يسمح بتدخل خارجي مهما كانت الجهة المتدخلة؟ الإجابة هي لا كبيرة أخرى. إذن ما العمل؟ وهو السؤال العملي الذي يقود التحولات والثورات أيضا.
لقد كانت بوابة دخول القوى الخارجية بين فرقاء الوطن الواحد هي دوما فرقتهم الداخلية، وهذا لم يبدأ اليوم أو في تونس بالذات، بل هو تاريخ طويل وقاعدة سوسيولوجية يمكن تطبيقها على كل تجارب الأوطان الأخرى. وإغلاق باب الدخول على الأجنبي يبدأ ببناء تفاهمات داخلية حول المشتركات الوطنية، فهل نجد علامات على ذلك في معارك التونسيين الداخلية؟ الإجابة هي لا كبيرة بحجم لا يقاس.
الحلول في الداخل ولا يمكن استيرادها
هذه قناعة نقرأ بها التاريخ.. فرقاء الوطن الواحد محكومون بالتعايش والعمل المشترك رغم الخلافات التي هي مكون ضروري في كل تجربة سياسية، والحكمة السياسية عند التصدي للشأن العام تتجسد من خلال تحويل الخلافات إلى عنصر بناء لا إلى عنصر هدم وصراع.
في الحالة التونسية في الوقت الراهن يمكن ممارسة التطهر السياسي باتهام الآخرين بالعمالة للأجنبي (لا أحد نظيف اليد والقلب من ارتباط خارجي)، لذلك يمكن للمتهم أن يتهم أيضا، فكل فريق ملك أو يسعى أن يملك خيوط ارتباط مصلحي واستقواء مع قوة خارجية. ولا فرق في الواقع بين الاستقواء بفرنسا أو الاستقواء بقوة أخرى (أمريكا بريطانيا أو حتى الواق الواق)، وتعادل نوايا الخيانة/ العمالة أو الاستقواء بالأجنبي يجب أن ينتج كفّا مباشرا وحاسما عن كل استقواء، والانكباب على مصالحات داخلية. لا يوجد صديق في الخارج إلا بمقابل من مصالحه أولا.
عندما نتحدث بلغة "يجب" فنحن لا نقدم دروسا في الأخلاق السياسية لأحد، بل نكرس قناعة بسيطة وواضحة. قوة كل بلد في داخله، وتعبر عنها نخبه وطاقاته العلمية والثقافية، وتنفذها قواه الإدارية والاقتصادية. وفي اللحظة التونسية الراهنة هذه القناعة هي المصير الوحيد المتبقي للخروج من حضيض الأزمة الصحية والاقتصادية التي تطحن عظام البلد وتفتت نسجه
ليس أسهل من الوقوف على ربوة التطهر السياسي ونعت الآخرين بالعمالة، ولكن الوضع الكارثي سيجرف حتى الربوة التي يقف عليها المتطهرون.