هل يمكن أن يكون كل هذا كذبة كبيرة وعينا زيفها، لكننا نصر على صدقها ككل هارب من وعي موجع؟ هل يوجد نور خارج كهف الأوهام؟ هذه أسئلة تعود في مناسبات كثيرة مثل عيد الاستقلال وعيد الجلاء وحتى عيد الشجرة.. ألم نتحول إلى غراسة الزيتون المستورد ونحن الذين ورثنا غابة زيتون عمرها ألفا سنة؟
الحالة التونسية حالة كاشفة لحالة المواطن العربي في القرن العشرين، وما سيأتي بعده، إلا أن يغير الله حال الأرض غير حالها. هذا المواطن لا ينتمي لأن ليس له ما ينتمي إليه، هذا العربي التونسي ليس مواطنا بعد، إنه بشر هائم بحثا عن مستقر يمنحه وجودا أوسع من بطاقة تعريف ورقية. في ذكرى استقلال تونس أكتب أنا الفرد، الذي عاش ستين سنة؛ أني في أفضل حالات وجودي، مواطنا منقوص الهوية.
سأتهم نفسي بنكران الجميل
الدولة التونسية المستقلة علمتني بنت المدرسة وعلمت المعلم الذي علمني، فلِمَ أنكر فضل الدولة على شعبها؟ لكن ماذا علمتني؟ أنتبه في مرحلة الغموض التي نعيش إلى أن إثبات الانتماء يكون بأن الحصول على الحق الطبيعي ليس إلا فضلا ومنّة من الدولة، ولاحقا هو فضل ومنّة من الزعيم الذي بنى الدولة. سيصير كل شيء موضوعا تحت هذه الزاوية. الخدمة العامة ليست حقا، بل هي فضل وعلى المتفضَل عليه رد الفضل لأهله بعدم طرح الأسئلة، ولو شبهنا الأمر لوجدنا شبَها كبيرا بين تسمين الدابة وصناعة المواطن الخاضع الشاكر، خاصة أن احتمال الذبح ليس مستبعدا، فقد دفنت دولة الزعيم مواطنين في عرصات الإسمنت.
هنا تغيب المواطنة تماما ووجب أن نصرخ بالجانب الآخر من الجملة: تغيب الدولة تماما، إذا لم تكن الدولة دولة فإن الفرد فيها لا يصير مواطنا. وهذه جملة واضحة في سياق أريد له أن يظل ضبابيا إلى الأبد، وليس هذا نكرانا لجميل، بل إعادة حق إلى مساره في اللغة على الأقل.
إفراغ الاستقلال من مضمونه
الدولة العربية، قُطرية كانت أم قومية، مملكة كانت أو جمهورية (وما تونس إلا عينة).. لم تبن مواطنا لأنها لم ترتق إلى مرتبة الدولة. ليس الربيع العربي ما تم تفريغه من مضمونه، لقد تم قبل ذلك تفريغ حركة التحرر الوطني الشاملة من مضمونها، لذلك جاء الربيع العربي مصححا، وحتى اللحظة يفشل؛ لأنه لا يصحح داخل دولة، بل يواجه جهاز قمع فقط؛ جهاز قمع عار من كل أخلاق الدولة.
هناك قياس يؤلم كل عربي يطمح إلى المواطنة بين دولته وأي نمر من النمور الاقتصادية التي استقلت عن محتلين في نفس الزمن (الخمسينيات).. إمكانيات أقل من أي دولة عربية، وتعليم منعدم في نفس الفترة، لكن الفارق الآن مذهل. تقتحم صور الرفاه الاقتصادي في البلدان النمور بيت العربي فيزداد إحباطه.
تروج له أجهزة الدعاية وهي شقيقة جهاز القمع، أن العربي مستهدف من قبل الإمبريالية والصهيونية والماسونية، وحتى جرثوم كورونا يستهدفه.
يرتاح العربي في وضع الشعب العظيم المستهدف لعظمته، لكنه في الباطن يرتاح في وضع الضحية. ترتاح الأنظمة المتشبهة بالدول لمواطن ضحية فتواسيه بذكر التاريخ وحمايته من الحديث عن المستقبل، كلما التفت إلى الوراء نسي المستقبل فلا يسأل عن الأجهزة ما تدبر له. وهذه العملية مستمرة منذ أول انقلاب عسكري حتى انقلاب قيس سعيد في تونس وحتى الانقلاب القادم في قُطر آخر، منذ أول إعلان استقلال حتى اللحظة.
كم هي غزيرة وكثيفة تلك الكتب والنظريات حول الاستقلال والسيادة، وبناء الدول التي حبرها مثقفون عرب طيلة قرن، لكن من كتبها صار جزءا من الأجهزة ويبرر لها ويقبض. خيانات المثقفين هي جزء من فعل الأنظمة، والمثقف شرطي بلباس مدني في موقع أكاديمي، أو شاعر بلاط وإن استعار من مظفر النواب. المثقف حارس القيمة قليل، ويعرف سجون الأوطان أكثر من جامعاتها، ولا غرو أن من كثف الحديث عن خيانة المثقفين عاش خارج هذه الدول فوجد عبارته.
هل نحن دولة مستقلة أم محطة سفر؟
الطبقة الوسطى تُجلي أبناءها عن الوطن، وهذه الموجة الثانية بعد أن أجْلت الطبقة المرفهة أولادها، والطبقة الدنيا تعبر البحر في مغامرات بلا أفق. حالة هروب جماعي إلى المجهول تكشف حالة من اليأس الجماعي، والدولة (وكم تبدو التسمية مجانبة للصواب)، تبارك هجرة سكانها للتخلص من عبء تشغيلهم. ماذا بقي من الدولة إن كانت فعلا دولة؟
إذا تأملنا موجات الهجرة التي يقتحمها التونسيون عبر قوارب الموت أو باستعمال حيل القانون، فإننا نتوقع أن يصير البلد أو ما تبقى منه مأوى للمتقاعدين الذين لا تستقبلهم الهجرة؛ لأنهم قوة عمل مستنفدة، ولكن منذ زمن طويل لم نعد نسمع إلا عبارة "من حاز رضا والديه، فإن هذا البلد لم يعد صالحا للعيش". هل يصير البقاء في تونس معجزة، إننا نتجه إلى مأوى للعجزة؟
في ذكرى الاستقلال، لا ندري إن كانت الدولة تستطيع أن تتدبر رواتب شهر آذار/ مارس. في بلد الفلاحة، تستورد الدولة الغذاء ويتزاحم الناس في طوابير طويلة من أجل وزنة سكر أو علبة حليب.. ماذا بقي من الدولة لتحتفل بالاستقلال؟
يحضرني قول منسوب لروبرت فيسك الصحفي الإنجليزي فسّر به نظافة بيت العربي ووساخة مدينته، حيث انتهى إلى أن غياب الشعور بالانتماء للمكان العام وراء هذا التخلي الجماعي عن النظافة. العربي لا ينتمي لدولة فهو لا يشعر بأهمية ذلك، ربما يشعر بالخوف من الانتماء واليقين أنه لا يرغب في ذلك، إنه ينتمي لنفسه بقدر توجسه، وأرى التونسي حالة مثالية لهذا التخلي.
نختم بألم بقول منسوب لشاعر تونسي قديم، نظنه ابن راشد القفصي، وأظنه كتبه في وضع مماثل لم يتغير منذ ذلك الزمن:
بلدُ الفلاحةِ لو أتاها جرول** أعني الحطيئةَ لاغتدى حرّاثا
تصدا بها الأفهامُ بعد صِقالها** وتَرُدُّ ذُكران العقول إناثا