بتنا نخشى أن نثير غثيان القراء من الدوران في الحلقة السياسية المفرغة التي أدخلنا فيها الانقلاب، فما نبيت عليه من خبر نستعيده مع قهوة الصباح التي فقدت طعمها، وقد انتبهنا بشكل متأخر إلى أننا لم نعد نسمع موسيقى. لقد قرفنا من الانقلاب نعم، ولكن قرفنا أيضا من معارضي الانقلاب، فلا هو حسم الأمر كدكتاتور شجاع وحاسم ولا المعارضة خرجت عليه وعلى أنصاره الحقيقيين من اليسار خروجا ينهي المهزلة.
ولقد رددنا أيضا أن البلد سيدار من خارجه وتمنينا أن تكذبنا الوقائع، لكن تونس صارت حديث المجالس الدولية، وهناك مؤشرات كثيرة تتجمع على أن الحلول ستأتي من الخارج ويجري الآن تجهيز المظلة الداخلية للتغطية، وهذا سبب آخر للقرف. هل نحن مستعجلون على رزقنا؟ إن فقدان الحرية يشتت عقولنا بعد أن استطبنا عيشها.
الرئيس معزول لكنه لا يسقط
أشار الرئيس الجزائري في إيطاليا بعبارة صريحة غير قابلة للتمويه إلى المأزق التونسي، وقدم الحل المطلوب (العودة إلى الديمقراطية). وكان البلدان الجاران القويان المؤثران فعلا (الجزائر وإيطاليا) متوافقين على التوصيف والحل. وقد سبق ذلك إعلان غضب ليبي من سياسة المنقلب تجاه الأزمة الليبية لجهة الانتصار لباشاغا ضد الدبيبة، بينما نطالع الصحف الفرنسية وهي تشن هجوما غير مسبوق على المنقلب وتصف الوضع بأنه على شفا الانهيار. ولجريدة لوموند قراء في تونس يعدلون عليها بوصلتهم.
ولعل تصريح الأستاذ بن عاشور (يعتبر بوصلة النخبة المتفرنسة) بأنه ضد الانقلاب، ولم يعد يثق في الرئيس وينكر معرفته به؛ علامة مهمة في تغير موقف النخبة الاستئصالية (الفرانكفونية) نفسها من الانقلاب.
عزلة خارجية يظهر تأثيرها على النخبة في الخارج فتكتمل دائرة العزلة في الداخل، لكن المنقلب يمضي غير مبال حتى أنه خرج ضد لجنة البندقية ورفض توصيفها القانوني للوضع التونسي ولخطة المنقلب المتعلقة بوضع دستور جديد والاستفتاء حوله، كأنه قادر فعلا على البقاء في عزلته وقيادة البلد دون عون خارجي مالي وسياسي وديبلوماسي. لماذا لا يسقط إذن؟
نجلد المعارضة من فرط القرف
سرنا مع المعارضة الديمقراطية منذ الساعات الأولى للانقلاب، وكنا على يقين من أن المنقلب لا يملك وسائل بقاء ولن يملك، ولكن يوشك الحول أن يكتمل والانقلاب صامد، وطيف من هذه المعارضة يقنعنا بأن حولا من عمر شعب زمن وجيز يمكن احتماله.
لقد كسرت هذه المعارضة وهْم المنقلب وحصرت النقاش ببراعة في مربع ديمقراطية ضد انقلاب، وجعلت قاعدة واسعة تنفضّ من حوله فيظهر عجزه في الشارع بينما تظهر قوتها متى أرادت النزول. لكن بقدر وضوح هذه الصورة فإن هناك استدامة لفترة التريث والمطاولة، كأن المعارضة ليست واعية بالثمن الاجتماعي الذي سيقع على كاهلها بعده (نعم يوجد ما بعد الانقلاب)، هذا الثمن يثقل كل يوم ونراه يقسم ظهر من يتولى الأمر بعده.
المعارضة الديمقراطية الحقيقية لا تزال تطمع في ضم قوم آخرين إلى صفها باسم توسيع قاعدة المعارضة وتسهيل الحلول اللاحقة، وهذا في تقديرنا وهْم كبير يدفعنا إلى القول إن هذا خطأ تكتيكي واستراتيجي، ونفسر وجهة نظرنا.
هناك طيف ثان من المعارضة يشمل الذين ساندوا الانقلاب ورغبوا في توظيف زخمه الأول لتصفية خصومهم بواسطة قوة الدولة، وأسمي اليسار الاستئصالي والقوميين وحزب الإدارة الكسول، ومعهم غوغاء بلا رأي ولا مشورة، ولكن حطب معارك غير ديمقراطية جاهز وتحت الطلب.
عد أن فقد هذا الطيف أمله في توظيف الانقلاب ورأى القوى الدولية تعبر عن غضبها ورغبتها في إنهاء الوضع، انسحب من حول الانقلاب ليتخذ موقعا في المعارضة، ولكن بنفس الأجندة الاستئصالية، وهو يسوق نفسه الآن كبديل دون الطيف المعارض الحقيقي وفي عمقه حزب النهضة.
انتظار المعارضة الصادقة لالتحاق المعارضة الكاذبة (والتسميات تلزمني) وبناء آمال سياسية على عمل مشترك بعد الانقلاب؛ هو الخطأ الذي لن ينتج حلولا لا في إسقاط الانقلاب ولا في قيادة البلد من جديد على طرق الديمقراطية.
هذا الانقسام السياسي بخلفية استئصالية هو الذي صنع ممهدات الانقلاب، وهو الذي مد في أنفاسه لحول كامل وهو الذي سيخرب ما بعده لنعود إلى وضع مشابه وربما أكثر سوءا مما قبله. وتقديرنا أنه لغم سيدس في طريق الديمقراطية وسينفجر مرة أخرى كما انفجر الانقلاب في طريق المسار الديمقراطي. هل على المعارضة الصادقة أن تتخلى عن وهم التجميع المفيد؟
الحسم في الانقلاب وفي من سانده أولا وعارضه لاحقا
أحد أسباب القرف السياسي هو الإبقاء على وهم قوة النقابة التونسية والتزلف إليها لتكون ضد الانقلاب، وفي بناء ما بعده. لقد فقدت النقابة كل رصيد أخلاقي قبل الانقلاب، عندما ضايقت كل الحكومات وعطلت المرفق العمومي وأجهزت على آخر أرصدتها الأخلاقية والرمزية بإسناد الانقلاب وتبريره طيلة هذه المدة، وهي تتحول إلى عدو صريح للديمقراطية بمحاولتها تصدر المشهد وجني ثمرة جهد المعارضة الصادقة التي كسرت قاعدة الانقلاب وجعلته هشا.
تقفز النقابة ويسارها الخياني إلى مقدمة المشهد كأنها المعارضة الوحيدة وتظهر من الوقاحة ما تنسف به جهد من خرج ضد الانقلاب منذ اليوم الأول، وتقف موقف من يملي الشروط.
وتقديرنا أن المعارضة الصادقة تقع في خطأ قاتل باستدامة هذا الوهم الذي يضعها في موضع الدونية والتبعية للنقابة، إنها تمنحها (أو تعيد لها) رصيد قوة لا تستحقه، ولا يمكنها فعلا اكتسابه إلا بالإيهام بأنها قادرة على شيء فعلا. وهذا يمثل عندي حالة عجز فكري وسياسي، وفيه كسل نضالي. ولا نستنكف أن نقول إن حزب النهضة هو من يعيش بوهم قوة النقابة، بل نراه يخاف من النقابة ويرتعد فرقا أمامها، وذلك منذ حكومة الجبالي وما تلاها.
جهلنا بما يجري وما يقال داخل الحزب حول الموقف من النقابة لا يسمح لنا بفهم كامل لهذا الخوف منها، ولكننا نؤمن بأن إشراك النقابة في أي حل سياسي هو بوابة لعودتها لابتزاز ما بعد الانقلاب والحكم بقوة من خارج كل الحكومات، ولو كان فيها أقوى الكفاءات الإدارية والسياسية.
إن النقابة هي اليسار الاستئصالي (وواهم من يظن أن الطيف غير اليساري فيها له قوة فعل داخلها)، وهذا اليسار هو صوت السفارة الفرنسية منذ عقود طويلة، ويكفي أن نتأمل نتائج (نضالات هذا اليسار) لنجد مطالب السفارة تتحقق على الأرض دون أن تلفت الانتباه. إشراك النقابة في الحل هو منح فرنسا (حقوقها التاريخية) في تونس، وهذه هي بوابة خراب المستقبل وقد كانت بوابة خراب ما قبل الانقلاب.
ويقيننا أن تحول الموقف الفرنسي من الانقلاب جاء بعد أن دفع النقابة لموقفها الحالي وهو يشجعها على الحصول على المقعد الأول في المعارضة مع مواصلة كسر الصف المعارض لإقصاء النهضة ومن يساندها في المستقبل، أي مواصلة الحكم بالنقابة ووضع البلد تحت وصاية فرنسية لا تنقضي أبدا.
القرف إذن ليس من سخافة الانقلاب وعته المنقلب فحسب، بل من غباء من يعارضه وجبنه دون الحسم في الأسباب والبقاء في سطح معارضة نتائجه. نعرف كلفة ذلك ونقدر شقاء الحسم، لكن من لم يتحمل كلفة الحسم في الأسباب سيعيد إنتاج الوضع الهش الذي سبقه، حيث حكم البلد أضعف من فيه عددا وأشدهم وقاحة.
سيصل القوم إلى قناعة بسيطة بعد زمن طويل: لا يمكن بناء ديمقراطية سليمة مع اليسار التونسي المسلح بنقابة فاسدة. لكن الزمن الذي سيمر قبل ترسخ هذه القناعة سيجعل فترة ما بعد الانقلاب فترة أزمات طويلة.. ننتظر في حالة قرف ونعتذر للقراء.