قصة انقلاب أعلن عن نفسه منذ شهور ونفذ بهدوء حتى ليوشك أن ينال توصيف أسهل انقلاب في التاريخ. الوقت مناسب لعض الأصابع على خديعة الانتخابات. لكنه مناسب أكثر للدفاع عن الحرية والديمقراطية ولذلك سننظر إلى الأمر من زاوية الفرز التاريخي الذي أتاحته حركة الاعتداء على الدستور التي قام بها قيس سعيد ليلة 26 من يوليو 2021.
الانقسام السياسي يتعمق.
انقسم التونسيون انقساما عميقا يصعب جبره في المدى المنظور. وكانت لديهم حتى البارحة قدرة على تذويب الاختلافات وعقد الصفقات التوافقية والاستمرار في بناء حالة من السلم المدني والتدرج في بناء الديمقراطية. لكن ما فعله الرئيس وسع الشرخ وتبين أن هناك جمهورين عدوين. يهددان بعضهما بالشارع.
جمهور الرئيس الذي اتخذ الوضع الاجتماعي المتردي ذريعة للتحرك يوم 25 وليلة 26 غير شعاراته الاجتماعية بسرعة إلى شعارات سياسية موجهة ضد حزب النهضة ثم مر إلى استهداف مقرات الحزب بالحرق والتخريب. فكأن التحرك الميداني وقرارات الرئيس تضع تونس ضد حزب النهضة وهو ما يمهد لاحتراب ينسي الناس الذريعة الأولى التي برر بها الانقلاب على المؤسسات. لقد أثيرت غوغاء كثيرة باسم المطلب الاجتماعي، ولكن قياد الأمر كان يتجه وجهة أخرى. عندما يتفطن عوام الناس إلى أن مطلبهم الاجتماعي لم يكن على الطاولة ستتضح أمامهم الرؤية أكثر لكن حتى ذلك الحين تدخل تونس مرحلة بلا مؤسسات وبلا قانون.
حزب النهضة هدف ظاهر لكن هناك أهدافا أكبر.
الاستهداف المباشر لحزب النهضة يقدم قراءة مغالطية فهو يصور تونس كأنها بلد يعيش في بحبوحة وجاء الإسلاميون فخربوه وقد بنيت على هذه المغالطة عملية تطهير لمراحل ما قبل الثورة بما فيها مرحلة بن علي الأخيرة. هل سنجد تونس مختلفة بعد إخراج النهضة من المشهد السياسي؟ من السذاجة الاكتفاء بالخطاب الظاهر للرئيس ومن سانده في انقلابه. حركة الرئيس قامت ضد الصندوق الانتخابي وليس ضد حزب النهضة. المسار الديمقراطي الذي لم يمنح أنصار الرئيس ولن يمنحهم مطلقا أية مكانة سياسية وأي دور هو الذي تم الانقلاب عليه والنهضة هنا هدف تمويه بينما الحرب على هدف أكبر إلغاء التجربة والعودة إلى التدبير الفردي.
والحقيقة أننا منذ بيان الرئيس المفاجئ نجري مقارنات بسيطة، ولكنها شديدة الوضوح بين ما يحصل هنا وما حصل في مصر صائفة 2013. فكأننا بصدد قراءة درس واحد مرتين. تعليق الفشل على الرئيس مرسي وحكومته، ثم استهداف الإخوان ،ثم حلول حكم فردي غاشم من إنجازاته العظيمة التفريط في مياه النيل. بقيت حتى الآن فقرة ناقصة في النص هل سنعرف مذبحة مشابهة لمذبحة رابعة؟ هناك من يعمل على ذلك.
نرى السيناريو يتهيأ: إغلاق البرلمان ومنع انعقاد جلسة يوم (26) يتجمهر أنصار حزب النهضة أمام أبواب البرلمان يعلنون اعتصاما مفتوحا ويكون الرئيس وأنصاره قد رتبوا أمر الحكم خلال الشهر المعلن لإغلاق البرلمان ثم ندخل مرحلة جديدة توجب تنظيف الشارع من الاعتصام وإعادة الهدوء وبقية معزوفة خطاب بن علي المستعادة نحفظها عن ظهر قلب.
نهاية أم بداية الديمقراطية؟
لا يملك الرئيس رؤية للمستقبل لقد اتضح هذا منذ الأيام الأولى عندما تجاوز الناس فرحة تصعيد رئيس من منحدرات اجتماعية شعبية. لقد أيقن الكثير أنه يتخذ ستارا. الآن ستخرج الجهة الخفية لتدعم انقلابه ولن يكون لديها إلا العنف لإبقاء الشارع تحت السيطرة. والعنف لا يديم سلطة. في الأثناء سيكتشف المخدوعون أن (القضاء) على النهضة لم يحل مشاكلهم وسيحتاجون حريتهم كاملة في التعبير عن حاجاتهم المؤجلة. ستكون النهضة خارج الصورة وستكون هناك حاجة إلى مشجب لتعليق الفشل ولن يجد أحد مشجبا لذلك مع تفصيل مهم جدا أنصار حزب النهضة الذين تحرروا من مسؤولية الحكم سيكونون في الشارع بلا مسؤوليات.
لقد ضربت تجربة تونس في مقتل ليلة 26 ولكن من فعل ذلك سيحمل حملا ثقيلا نراه سينوء به قريبا. نعتقد أن الذين ذاقوا حلاوة الحرية سيكونون درعا حاميا لهذا المكسب العظيم. لكن الأسف رغم ذلك سيكون الدفاع عن الحرية هو محاولة عودة إلى نقطة بداية بعيدة والثمن سيكون ثقيلا وكان يمكنه دفعه على طريق مسارات الانتقال الديمقراطي المتعثرة.
في كل الأحوال سيكتب في مقررات التاريخ أن الرئيس العربي الوحيد الذي انتخب انتخابا شعبيا عارما كشف عن انقلابي أسوأ من عسكر كثير ركب الدبابة وأعلن البيان الأول. لكن لنجعل الحرية هدفا أولا. قد تكون هذه فعلا بداية الديمقراطية بعد انكشاف من نافق الديمقراطية.