أعلن رئيس الحكومة التونسي (السيد المشيشي) عشية السبت (16 كانون الثاني/ يناير 2021) عن تعديل وزاري أول على حكومته، ليدخل السنة الجديدة بطاقم يطمح إلى الاستقرار والمثابرة في التسيير لكن دون انتظار معجزات تنموية. إن مؤشرات الاستقرار تترادف رغم أن انفجارات عنف حصلت بعد ساعات قليلة من إعلان التعديل. عنف ليلي بلا هوية سياسية، وحتى الآن ظهرت فيه وجوه شباب لم يبلغوا الحلم ولم يرفعوا شعارات من أي نوع، وهاجموا محلات خاصة وعامة بقصد النهب. تحدث سياسيون من الصفوف الخلفية في أحزابهم عن إسناد التحركات ووصفوها بثورة الجياع، ولكن لم يُظهر أي سياسي وجهه ليتبنى التحركات ويتحدث بمطالبها ويعطيها أفقا واضحا.
شد أزر الحكومة بحزام أقوى
قراءة الهويات السياسية للوزراء وخلفياتهم كشفت أن الحزام السياسي للحكومة قد شد بقوة أكبر، فقد انضم حزب تحيا تونس للحكومة بشكل صريح، وفاز حزب قلب تونس بمقاعد إضافية رغم أن رئيسه ومؤسسه مسجون بتهم مهينة، بينما أولجت النهضة وزيرا في قطاع حساس إذ استعادت وزارة الفلاحة التي كانت لها في حكومة الفخفاخ. فسحت مجموعة التكنوقراط خريجة مدرسة الإدارة مقاعد لوزراء بخلفيات سياسية، فلم تعد الحكومة خالصة النوع. ومعنى هذا أن الأحزاب التي احتضنت المشيشي وفي مقدمتها النهضة قد اقتربت أكثر من التكنوقراط، وستعمل معهم بما يمتن بنيان الحكومة. شراكة سياسية وتكنوقراط، هذه تجربة أولى تسمح بتوقعات مريحة في الداخل والخارج، رغم أن انسجام المكونات سيظل معضلة فهوى الأشخاص يؤثر أحيانا أكثر من خطة الحكم المتفق عليها. وهذه المجموعة ليست على قلب رجل واحد حتى الآن، والمعول على قدرة المشيشي في لحم شقوقها العاطفية.
هذه الحكومة تتجاوز في موقع ثان شحناء البرلمان الموجهة في الغالب ضد النهضة والائتلاف، وتبني اتفاقا بين مكونات حزام الحكومة داخل البرلمان نفسه رغم غضب الائتلاف من بيان الإدانة الذي صدر عن الغنوشي بخصوص ما اتهموا به من عنف. وكلما استقر الحزام داخل البرلمان استقرت الحكومة خارجه، وربما تنتقل (وهذه جملة متفائلة) إلى مرحلة الإنجاز. وليس مطلوبا منها الكثير في هذه المرحلة سوى أن توصل مؤشرات النمو إلى درجة الصفر إيجابي، فوباء كورونا المتفشي يعيق كل أمل في التقدم.
تعديل يعيد رسم حدود الفاعلين طبقا للدستور
كانت منطقة التماس بين رأسي السلطة التنفيذية (الحكومة والرئيس) منطقة تصادم واحتكاك منذ إعلان نتائج انتخابات 2019. حاول الرئيس التأثير في اختيار رؤساء الحكومة، وساندته أحزاب برلمانية وقوى من خارج البرلمان طبقا لهوسها في معاداة النهضة وإقصائها عن مواقع القرار، لذلك سقط خيار الحزب الأول (حكومة الحبيب الجملي) وفرض خيار الرئيس (حكومة الفخفاخ) التي سقطت من داخلها. فرض الرئيس ومديرة ديوانه وزراء في حكومة المشيشي، لكن التعديل الأخير أقصى كل الوزراء المنسوبين للرئيس (البعض يقول أصدقاء مديرة الديوان) وخرجت وزارة الداخلية من تحت هيمنة الوزيرة والرئيس.
بات واضحا أن المشيشي يتحرك كرئيس حكومة بصلاحيات كاملة وليس مجرد رئيس وزراء عند الرئيس. لقد رسم حدوده ووضع علاماته في مشهد يذكر بحركة ذوات المخلب على مجالها الترابي، لكنها حركة مرسومة بالدستور، وقد استعاد المشيشي روح الدستور في حكومته الحالية، بقطع النظر عن كفاءة الفريق الذي سيبقى تحت الرقابة الشعبية الحرة. لكن الحدود باتت واضحة في انتظار المصادقة البرلمانية على التعديل، ونرجح أنه سيفوز بذلك فحزامه الآن أقوى مما كان يوم تشكيل الحكومة.
هل ستنتهي المماحكة بين رأسي السلطة؟ نعتقد جازمين أن الرئيس وفريقه المجهول لدينا يخسرون مواقع فاعلة، ولن يبقى أمامهم إلا تحريك الشارع لنقض عرى المسار برمته. فهل يملكون الشارع فعلا؟ يتهم البعض فريق الرئيس بتحريك الشارع ليلة 16-17 كانون الثاني/ يناير عن طريق تنسيقيات مجهولة الهوية، لكني لا أجمع أدلة على ذلك وأنزه الرئيس بشخصه عن العبث في هذا المجال، لكن جهلنا بفريقه يسمح بكل الشكوك وهذه مسؤوليته.
عنف بلا أفق، وحكومة ذات أفق، ومحيط يدفع إلى الاستقرار.. هذه معطيات على الأرض تخدم حكومة المشيشي وحزامه السياسي الذي يشده الغنوشي (رئيس الحزب الأقوى ورئيس البرلمان) شدا متينا، وهو يحسب مكاسبه وينظر إلى أفق أبعد كعداء إثيوبي في مهرجان ألعاب القوى.
النهضة تحرس الاستقرار الحكومي
نكتب هذا ونتحمل تهم الدعاية للحزب وبعض تهم الارتزاق، ولكن الوقائع تثبت صحة القراءة، وتكشف عوز الحجة عند من يتهمنا. ما كان لحكومة المشيشي أن تمر بدون النهضة، وما كان لها أن تستقر بدونها. لكن لماذا تفعل النهضة ذلك دون أن تحوز مكانة كبيرة في الحكومة؟
تتضح خطة النهضة/ الغنوشي في دعم الاستقرار، وتظهر مكاسب الحزب غير المباشرة بالتدريج. خطة النهضة هي إبقاء المسار السياسي على سكة الديمقراطية وصندوق الاقتراع بثمن مكلف في لحظته، ولكنه يقدم مردودا بعيد المدى، فضمان بقاء الصندوق هو ضمان مشاركة في الحكم ولو بمقادير أقل من حجم الحزب في الشارع.
كتبت سابقا أن الغنوشي مستثمر جيد في الحرية وهو يفعل ذلك بروية، وإن لم يكن وحده لكنه الفاعل الرئيسي. الحرية تضمن له الاستقرار الذي يضمن له البقاء في المشهد، لذلك يقدم تنازلات مهينة لحزبه وشبابه المتحمس، لكنه يجني ثمرة ذلك في كل مناورة. في سياق أدبي نقول إنه يعطش خيله ليفوز بالسباق.
لقد صارت حقيقة ماثلة أن بقاء المسار الديمقراطي يضمن سلامة البلد ويدفع إلى التقدم نحو مزيد من الاستقرار، ويسجل الغنوشي ذلك في مكاسبه الحزبية والشخصية. ويبدو أن نخبة الإدارة (الحاكم الفعلي الآن) قد استشعر ذلك فمال إليه (أو هادنه) وفاوض بعقلانية، لذلك فسح المجال لدخول الأحزاب للحكومة. لم نسمع كلمة تنازلات لكنها كانت كذلك.
وليس لدي معلومات دقيقة عن التقييم الخارجي للوضع الداخلي، ولكن الثابت أن الاستقرار محبذ لدى شركاء تونس في أوروبا. فقلقهم من الوضع الليبي (وتجربة جزائر التسعينات على مكاتبهم) يدفعهم إلى تفضيل الحلول التونسية المتأنية وإعادة تقدير الحزب الضامن للاستقرار، وهذه مكاسب للغنوشي أولا عمل على كسبها بأسلوبه ويدفع ثمنها الآن غاليا. سيقول لاحقا إنه خاض سباق المسافات الطويلة، وخصومه يقولون ذلك عنه الآن ولا يجدون نفسا للحاق به. لقد أنقذ الحكومة ونعتقد أنه سيقطع طريق الحوار الوطني أو يكيفه على هواه، فالنقابة تتراجع وعلامة ذلك علو صوتها بالنواح.
رغم ذلك لا أتفاءل بالمستقبل القريب
حرب البرلمان ستستمر، وتعتبر هذه الحكومة علامة فشل لمن يرغب في قطع المسار السياسي بإحداث كل أشكال الفوضى. أنتظر العودة إلى معركة سحب الثقة من الغنوشي، وهي معركة خاصة لا تهم الشعب الهائم وراء الخبز. الفاشية في البرلمان توسع نفوذها والأحزاب التي زعمت الدفاع عن الديمقراطية تقف خلفها، وتود لو أنها تخفض من غلواء خطابها لخلق منطقة لقاء تستر عورات الديمقراطيين وتحفظ ماء وجوههم، والفاشية تعرف ضعفهم وتجرهم من خراطيمهم كما تجر دواب مهجنة. لم يعد يزعجهم من الفاشية سوى غطرستها، أما موضوعيا فمطلبهم واحد.
الحكومة وإن بدت قوية فإن قوتها الحقيقية ليست في الأشخاص، بل في سرعة الإنجاز وتحريك عملية اقتصادية تدمج وتشغل وتظهر علامتها في الطريق. وأول العلامات المنتظرة هي الحد من انتشار الوباء وتوفير اللقاحات، وحل معضلة الفوسفات المعطل عبر حوار شجاع مع الفاعلين الجهويين، وستقع هذه الحكومة في مأزق حقيقي إذا سلمت للنقابة بمجال فعل غير نقابي ولم توقفها عند حدها.
إن رفض الحوار الذي تريد النقابة فرضه على الجميع سيكون علامة قوة للحكومة، فبعده ستعود النقابة إلى جحرها وتتوقف عن التخريب، وهذا ضمانة قوة ونجاح. بخلاف ذلك سنتابع خزعبلات كثيرة ونسمع خطابا خشبيا ممجوجا يصدر عادة عن تكنوقراط مرعوبين على مكاسبهم الشخصية. ليكن إذن تعديل حكومي واعد بالاستقرار، لكنه تحت رقابة شعبية حرة. والأيام دول، فما المشيشي إلا لحظة ستعبر في مسار يراقبه شعب تحرر وهذا مكسب باق إلى الأبد.