الطبيعة بخلت بالغيث على تونس هذا العام، والسياسة بخلت بالحلول البديلة، والبلد يصبر وينتظر. وعسى أن يصبر ولا ينفجر، فمؤشرات التململ الاجتماعي كثيرة وقد ضاعفها القرف من صراع ديكة السياسة.نبحث عن الرئيس فنجده يقيم صلاة الجماعة وحده، وليس زاهدا ولا راهبا في صومعة، فهو في قلب عملية سياسية يريد صياغتها على هواه. ونبحث عن الحكومة فنجدها تشد قبضها الأمنية وتنسى أن تشد العزم على التنمية وهي في انتظار معجزة إطلاق سراحها من الرئيس، ونبحث اعن الأحزاب فنجد أنها مشغولة فقط بقطف رأس راشد الغنوشي.. أين الربيع التونسي؟ نحن في انتظار معجزة، لكن بيقين أن لن نحصد قمحنا هذه السنة.
نعالج خيبتنا في الرئيس
نعم خاب أملنا ودخلنا في حسبة الأيام الباقية لمدته ونراقب أنصاره القليل لا يمنون علينا بإنجازات الرئيس، بل يحسبون علينا أنفاسنا ويردون على النقد ردودا تكفيرية. الرئيس عطل الحكومة وخالف الدستور ولا تصدر عنه أية إشارات مراجعة/ تراجع عن موقفه المتصلب. ندعو الله أن يتقبل صلواته وحيدا؛ تفرغ له المساجد للضرورة الأمنية. ولن نرجو أن يتقدم بأي مشروع قانوني ليحرج به البرلمان.
نشك في عدله وصواب حكمه، فذات يوم سجن شابا قال فيه ما لم يرقه، ورغم توسلات الأهل والأصحاب والنشطاء الخيرين فإنه لم يعف ولم يصفح عنه وقضى الشاب محكوميته كاملة في رمضان. منذ أسبوع صرح مؤسس حزب "الشعب يريد" لأهم صحيفة محلية (الصباح)، وهو شخص كان في الدائرة المضيقة التي قادت حملة الرئيس الانتخابية، بأن فوز الرئيس بالمنصب هو نتيجة مساعدة تلقاها من دولة خارجية. وهو اتهام صريح بالعمالة للأجنبي، لكن لا الرئيس رد ولا دائرته ولا بقية مكونات حملته ردت على هذا التصريح الصريح جدا، ولم تثر نزاعا قضائيا بل تجاهلت ومرت كأن لم يقل حديث بمثل هذه الخطورة.
بعد ذلك لمح بل صرح رئيس النقابة والذي كان يزور القصر كل يوم تقريبا وينسق سياسة النقابة مع رغبات الرئيس؛ بأن هناك في تونس صراع سني شيعي محتدم، وهو من أخطر التصريحات التي رميت بالساحة منذ الثورة (لأول مرة يتم الحديث علنا عن تأثيرات شيعية في تونس). وربط الناس بين الدولة الأجنبية وبين تصريح النقابي، ولكن الرئيس ذهب الى بلدة الغنوشي ليقم فيها صلاة في مسجد فارغ، كأنما ليقول له متحديا ها أنا في أرضك وأمام جمهورك.
لكن رغم ذلك وفي هذه الأجواء السوداوية سنعلق أملا أخيرا على الرئيس وهو يعلن زيارته إلى ليبيا، فنحن لا نرغب أن نرى خديعتنا كاملة لنقل إننا غير متفقين في التفاصيل الجزئية فقط، فأمطار الربيع قد تنزل في شهر حزيران/ يونيو.
نعالج خيبتنا في الأحزاب
وكم علقنا من آمال عريضة على نخبة شابة ألفت الأحزاب بعد الثورة وقادت العمل السياسي من مواقع مختلفة، ورأينا فيها بوادر تجديد النخبة وإعادة بناء الأفكار وصنع السياسات للمستقبل؛ فإذا نحن من جديد أمام أجندة وحيدة إرسال الإسلاميين وراء السحاب وهذه المرة بعبارة أشد وضوحا: "قطع" رأس الغنوشي.
بناء مشروع سياسي على قطف رأس الخصم هذا هو المشروع الذي رأينا من الأحزاب الشابة حتى الآن، وهو ما خيب آمالنا. كل المناورات والتسريبات والتحالفات تصب في ساقية واحدة، هي مشروع ابن علي (تونس بلا خوانجية).
هذا الموقف سياسي وهذا المنهج مطابق لعمل ابن علي، وإن قاده هذه المرة من كان يعارض ابن علي ويدخل سجونه. هذه الغباء الذي يتوالد من نفسه (كفرس البحر) لا ينتبه إلى أن الغنوشي ليس شخصا وإنما جهاز حزبي متين مقارنة بغيره، وأن قطف الرأس لا يقضي على الجهاز بل يقويه. وفيما نحن ننتظر منذ الثورة أن تخرج النخبة من هذه الحفرة، نقف اليوم على فصول أخرى منها لنظل ندور في مكان واحد وبفكرة واحدة وإن تغيرت الوجوه قليلا.
لقد ربحنا عملية غربلة جديدة، وسقط من اعتبارنا من كنا علقنا عليه الأمل في قيادة التغيير الفكري والسياسي، ولكن الثمن الذي ندفعه الآن مكلف جدا؛ إنها حياة بلد مرهونة برغبة بعض البنات المدللات أن يفقن صباحا ويشربن قهوتهن في شارع بلا خوانجية. هل نقول الضارة النافعة؟ هي كذلك، فأمطار الصيف مفيدة لامتلاء الثمار بالرحيق.
متى يغاث الناس ويعصرون؟
علمها عند ربي ولنا يقين المؤمنين، لذلك نقيم ما نرى على أنه غربال الثورة بصدد الاشتغال. ربما اتسعت ثقب الغربال هذه الأيام، فنسق السقوط متسارع والساحة تصفي نفسها وتلقي بغثائها على جنبات الطريق. الثمن مكلف جدا بل يوشك أن يرتد، ولكن كأن هناك قوانين تاريخية لا نريد الاستعانة عليها بأية غيبيات، بل يكفي أن نستعين ببعض الداروينية الاجتماعية التطور والتأقلم هو السبب الأقوى للبقاء.
هناك أفكار مشتركة حول منافع الديمقراطية والحكم الشفاف بصدد الانتشار بثبات في نفوس الناس (وكثير منهم ممن حسبناهم أميين سياسيا)، والمؤمنون بالحلول السلمية والرافضون لكل أشكال العنف السياسي والإقصاء يزدادون عددا، وحتى أسبار الآراء المزيفة منها والصادقة تقف عند رقم ذي ذلالة؛ 75 في المائة، لا يصرحون بآرائهم السياسية الآن (قبل ثلاث سنوات من الانتخاب).
هذا التحفظ مؤشر مهم على التأني في الاختيار، نرجح أن قد خرج الناس من العفوية/ الانفعالية إلى التفكير حيث تولد الاختيارات الموفقة. سيغاث الناس ويعصرون.. هكذا في قصص الصبر على انحباس الغيث السياسي، فأخطاء السياسيين دروس في الديمقراطية والغربال الثوري شغال منذ سنوات. سنثق في الزمن الذي يسوق السحاب إلى بلدة طيبة.