يقوم أنصار غزة، من العرب خاصة، بوضع قائمة مطالب أو أحلام كبيرة ويحملونها على ظهر المقاومة على الأرض، وهم في ذلك متعاطفون ومؤمنون بالمقاومة إلى حد تجاوز حدود الواقع واشتراطاته. وهذا يسبب لهم خيبة كان يمكنهم علاجها بتفهم أكبر لشروط تحرك المقاومة وتكتيكاتها على الأرض وحركتها في الخارج دفاعًا عن وجودها وعن مشروعها.
وكان يمكن الانتباه إلى قول الشاعر تميم البرغوثي، وهو رجل مثقف ثقافة سياسية عالية (تحريرها كلها ممكن في هذا الجيل)، ولم يقله في هذه المعركة، لأنه يتفهم حجم المعركة ويدرك قدرات المقاومة وعلى معرفة بالتاريخ الفلسطيني القريب.
أكتب محاولًا عقلنة مطالب الجمهور العربي المتعاطف وإعادته إلى الأرض.
حديث المعجزات والبشارات أدى مفعولًا عكسيًا
أوضح هنا نقطة أولى، العرب الذي أعنيهم هنا هم الناس المتحمسون لتحرير فلسطين من كل بقاع الأرض العربية، ولا أضع ضمنهم المخذلين المتربصين، المعجبون بقدرة العدو على الانتصارات المتتابعة.
هؤلاء المخلصون استعادوا منذ أول معركة الطوفان بشارات الشيخ أحمد ياسين في لقاءاته المشهورة مع قناة الجزيرة وحولوها إلى مواعيد ثابتة، كأن الرجل حدد زوال الكيان باليوم والساعة.
وقد ساهم كثير من النشطاء في صناعة فيديوهات ونشرها على أن فناء الكيان قد حل أجله، وأن غزة ستخرج من سجنها لتجتاح كل الأرض المحتلة وتستلم مفاتيح القدس وتعلن دولتها. كما ظهر كم (أقول كم) من الشيوخ ليخوضوا في سورتي الأحزاب والإسراء كما لو أنهما مقرر مدرسي كتبه معلم يوضح فيه للتلاميذ طريقة انجاز تمارين التحرير. ولأن المرجع مقدس؛ ظن كثيرون أن السور القرآنية تنفذ على الأرض الآن فلم يبق إلا جمع البقجات والذهاب إلى القدس.
لذلك نرى أن الإفراط في تأويل البشارات وتحميل الآية الكريمة جدول أعمال للتنفيذ السريع قد أرهق أصحابه وسبب لهم خيبة كان يمكن تجنبها. ونظن أن كثيرًا من هذا التفاؤل المفرط والذي تحول إلى مطالب تتدلل على المقاومة، فيه من نوع من الكسل الروحي والفكري وفيه ضعف في الوعي.
وأقول إن بعضه يحتمل معنى (من قبيل اذهب أنت وربك فقاتلا). ولو ترجمت خلفيته كما شعرت بها لقلت (أيتها المقاومة نحن نحبك ولكن هيا احسمي بسرعة لنعود إلى أشغالنا وحياتنا الجميلة) وهذا لعمري من التخذيل لا الحماس.
للمقاومة وسائلها وأجندتها الميدانية
من نصرة المقاومة أن نتفهم عملها تحت ظروف قاهرة ليس أقلها الطيران الذي يفلي الأرض. لذلك نقول للمتفائلين بلا تمحيص أن هذا التفاؤل المفرط لم يظهر في خطاب المقاومة ولم تعبر عنه في موقف أو خطة.
كان إعلانها الأول تحرير الأسرى وحماية المسجد من الانتهاك اليومي وضمان قليل من الأمن للسكان في غزة. لا يلاحظ المتحمسون جدًا أن هذه المطالب لا تزال قابلة لتحقيق، بل تحقق بعضها في عمليات تبادل سريعة بينما تحتفظ المقاومة بقدرتها التامة على فرض شروط التبادل.
ونلاحظ أنه في الليلة الفاصلة بين يومي 07-08 من شهر ديسمبر حاول المتطرفون اقتحام المسجد لإنهاء الإشراف الأردني عليه، لكن استجابة جمهورهم كانت محدودة مقارنة باقتحامات سابقة ولا يمكن أن يكون هذا إلا استجابة لمنطق فرضته المقاومة أن إهانة المقدسات كانت سببًا من أسباب الحرب وأن الكف عنها مطلب من مطالب المقاومة يمكن تفهمه أو الخوف من المقاومة إذ تضرب من أجل المقدسات ووجب الكف عن استفزاز صواريخها.
“تحريرها ممكن في جيل”.. تبدو لنا هذه الجملة ثورية ولكنها جملة واقعية وتضع معركة الطوفان في سياق تصاعدي بنى على ما سبق من النضال الفلسطيني منذ الشيخ القسام إلى الشيخ ياسين إلى السنوار، ويفتح لما هو آت بثمن غال جدًا ومكلف في الأرواح والعمران. لكنه من وجهة نظر المقاومة ثمن ضروري لا يمكن التقدم دون دفعه أسوة بكل ثورة تحرر دفعت الدم من أجل الوطن.
فإذا نظرنا من زاوية واقعية فإننا نرى الانتصار الكبير الذي تحقق بعد، وإن لم يصل المقاتل إلى باب القدس ليفتح لهؤلاء المتحمسين جدًا أبواب الصلاة فيه.
لكن هذا الفتح ليس مستحيلًا بل هو ممكن في جيل، ونرى أن هذا أقرب إلى التأويل العقلاني للبشارات التي تظل دومًا بشارات للمؤمنين تشد أزرهم ولكنها ليست كراسات مدرسية للحفظ والترديد.
تعديل التوقعات مفيد للمقاومة
لنعدل القياسات أو لنطامن في الأحكام العاطفية فهذا مفيد للمقاومة ولأنصارها. المقاتل على الأرض يعرف ما لديه من أسلحة ويعرف المجال القريب والبعيد الذي يتحرك داخله، ومن كان يثق به فلا يحمله ما لا طاقة له به، وهذا من حكمة المناصرة والدعم. فبعض قوانين الحرب يظل خفيًا على المتفرج ولو كان قلبه في المعركة.
لذلك فإن اللحظة هي لحظة تفهم ثم إسناد في انتظار وصول أفواج النصرة إلى غزة عبر معبر رفح، ومن كان آمن بقوة المقاومة فإنه يؤمن بلا شك بأن معبر الدعم سيفتح برغم قوة القهر التي وضعت مائة مليون مصري خارج المعركة، ووضعت كل النصرة المغاربية خارج المعادلة، وقد كان للمغاربة بابهم في القدس ولا يزال. وما غزة إلا طريق للقدس ولو بعدت الشقة.
الثقة بالمقاومة تتضمن التسليم لها بحسن إدارة المعركة ثم الاستعداد ولو بعد زمن طويل للدعم، فالدعم ليس علاج جروح بسيطة وإنما نصرة تاريخية تحول غزة إلى بوابة عبور إلى القدس في سنة أو في عشرية أو في جيل، هكذا نفهم قول الشاعر السياسي “تحريرها كلها ممكن في هذا الجيل”، وليتوقف المستعجلون على النصر السهل عن اللغو الافتراضي.
هذه معركة الإسلام الكبرى ضد الظلم تقودها غزة برجال قلة صدقوا ما عاهدوا الله عليه، مثل صحابة رسول الله ذات تاريخ غير العالم.