غربلت الهيئة الانتخابية المنصّبة في تونس المترشحين للرئاسة ونخلتهم، وخرجت على الناس بـ 3 مرشحين من أكثر من 100 إعلان ترشح، وعلى الناس أن يختاروا من بينهم، وإن لم يكونوا خياراتهم التي من أجلها أسقطوا مبدأ مقاطعة الانقلاب وإجراءاته، وخاضوا متحمسين في الترشيح والتزكية.
تفاجأ كثير من الناس بجرأة الهيئة الانتخابية على إقصاء الأسماء الوازنة، ما أسقط كل التخمينات التقليدية في الماء، فلا مرشحي المنظومة القديمة قُبلوا ولا مرشحي الصف الديمقراطي نجوا.
سكتت التخمينات القديمة كأن كاتبيها تلقوا ضربة على الرأس، ونحن ندخل مرحلة جديدة من التخمينات حول الرئيس المقبل، وليس لدينا أية معلومات أو استطلاعات تنير أمامنا طريق قراءة المشهد. لكن سنحاول وعلى قارئنا أن يعذر لنا الإفراط في التأويل، فالمعطى الأشد وضوحًا لدينا هو غموض المرحلة.
الناجون من الغربال
ثلاثة لا رابع لهم. الرئيس المنتهية ولايته. وقد نشطت آلة الدولة لصالحه فوفّرت له التزكيات الشعبية المطلوبة بأكثر من حاجته. لقد زكّاه قوم خائفون من تسجيل أسمائهم في قائمات تزكية معارضة له خاصة في الإدارة، ولم تتخلَّ عنه آلة الدعاية الإعلامية الرسمية المدجّنة على طريقة بن علي، وهو ما لم يحظَ به منافسوه. ولم يبلغنا خبر عن فرز تزكياته أو إسقاط بعضها كما حصل مع بقية المرشحين. وهو ما زاد في ريبة الناس من الهيئة الانتخابية التي نصّبها بنفسه.
أمين عام حركة الشعب، وهو حزب قومي مساند للرئيس ولحركته في 25 يوليو/ تموز، لم يتخلَّ عن الترويج له والدفاع عن قراراته بما فيها تعيين اللجنة الانتخابية. ولم يسعَ هذا المرشح في تجميع تزكيات شعبية، بل اكتفى بتزكية 10 نواب من البرلمان القائم، لأنه سبق له المشاركة في انتخابات قاطعها الجميع وضمن له نوابًا. لذلك إن حجمه الشعبي لم ينكشف مثل بقية المرشحين الذين شقوا شقاء كبيرًا في جمع التزكيات.
مرشح غامض جاء من أقصى المدينة. لم يحدث أية ضجة إعلامية في مرحلة جمع التزكيات، ولم يناوشه أحد من بقية المرشحين الذين خاضوا في أعراض بعضهم بشراسة ضيّقت فرصهم في التجميع. وجاء برصيد تامّ وكامل من التزكيات، وببطاقة السوابق العدلية التي مُنعت عن الآخرين بأسباب واهية، فوجدناه في الصف الناجي من الغربال، وبدأت الأسئلة حوله تتراكم ولا تجد إجابات حتى اللحظة. فهل يكون هذا المرشح المريب هو رئيس تونس القادم؟
بروفايل الرجل الغامض
النجاة المسترابة من الغربال جعلت المعلومات تتوارد، فقد كان نائبًا برلمانيًا مغمورًا ضمن حزب نداء تونس، بعيدًا عن نواب الضجة الإعلامية، ثم ظهر من جديد في برلمان 2019-2021 (المعتدى عليه) ضمن حزب قلب تونس (نبيل القروي)، وظل في مقعد خلفي مجتنبًا الظهور الإعلامي، ولم نعثر على إمضائه في قائمات سحب الثقة من رئيس البرلمان حينها، وتبيّن أنه رجل أعمال ناجح يستثمر في منطقة داخلية حيث نشأ (ولاية سليانة أو قلب تونس المفقَّر).
سمعنا له فيديوهات ينصح فيها الناس بالتفكير مثلما ما يفعل الرئيس، وقلنا هذا تملُّق أنيق، لكن هل كانت نصيحته لنفسه فاتخذ بها سبيل الغموض الذي اتخذه الرئيس الحالي في انتخابات 2019، حتى وجدناه رئيسًا مجهولًا؟ يبدو رجلًا أنيقًا في مقتبل العمر وله لغة فرنسية سليمة، من خريجي مدارس النخبة، لكن هذا لا يرفع عنا حالة الريبة التي تحيطه، والتي ضاعفها قبوله السهل مقارنة بعملية صيد الساحرات التي تعرّض لها بقية المترشحين.
مرشح الجيش والقوة الصلبة؟
هنا ندخل فعلًا في منطقة التخمين. فالسائد عندنا أن القوى الصلبة لا تتدخل في السياسة، وهي جملة نرددها خوفًا لا إيمانًا. فالانقلاب صناعتها من وراء حجاب مدني، ولدينا يقين أنها تعرف بوسائلها غير البسيطة حالة التذمر الفاشية بين الناس من سياسات المنقلب غير المجدية، وهي لا تقف طويلًا عند صفحات الدعاية السعيدة بإنجازات وهمية تكشف فقر الحلول وعجز الفكرة. فهل قررت تغيير الرئيس بوجه مدني آخر، ومواصلة إسناد ما بُني على اعتداء على الديمقراطية؟
إن هذا يعني تخليها عن الرئيس الحالي دون حركة انقلابية لا تعجزها لو رغبت، لكنها الأعرف بأن الداخل لا يقبلها والخارج المتربّص لا يشرعها. وإذا سلمنا بهذه الفرضية (وهي فرضية)، فإن شراسة الهيئة الانتخابية في إقصاء كل المرشحين تفسَّر بأنها تعمل لدى القوى الصلبة، وأنها مسنودة ومحمية ولا تخشى أية متابعة قضائية لاحقة، كما ينوي المطرودون فعله في الأيام القادمة.
فتكون الهيئة قد نظّفت الطريق بأمر عسكري صارم من كل احتمال رئيس متنطّع لا يقبل هيمنة المؤسسات الصلبة على سياساته في المرحلة القادمة. وقد أُقصي فعلًا كل من يشتمّ فيه رائحة مرحلة ما قبل 25 يوليو/ تموز، ممّن قد يعيد الاستقطاب الأيديولوجي وحرب الإقصاء التي خربت الانتقال الديمقراطي السلس.
لم يكن يمكن إهانة الرئيس بإقصائه في مرحلة التزكيات، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة بالقانون، وهو رجل لا يمكن توقع ردود أفعاله على الإهانة، وتشبّثه بالبقاء يسبّب حرجًا كبيرًا للقوة الصلبة.
وأبقت للزينة على مرشح حركة الشعب، وهي تعرف أن لا حجم له في الشارع، ودليلها أنه لم يفلح حتى في تجميع مكونات التيار القومي العربي بتونس، وتجنّب الحزب تجميع التزكيات الشعبية والتسلُّل عبر التزكيات النيابية، فضلًا عن أن عقله السياسي الباطن انقلابي في العمق وغير معارض لدور المؤسسات الصلبة في الحكم، ويمكن استيعابه بسهولة.
حالة بهتة من أمر مدبّر
أعقب قرار اللجنة ومعرفة الثلاثي الفائز وخاصة وجود المرشح الغامض حالة من “البهتة”، وطرح الجميع السؤال من أين جاء الرجل الغامض وكيف؟ من جمع له التزكيات من جغرافيا متعددة لم يرَ فيها الناس أنصاره ينشطون (الموغلون في سوء الظن قالوا إنها تزكيات مخدومة في مكتب يملك معطيات التونسيين الخاصة، لكنه تخمين بظن سيّئ). وفي غياب نشر قائمات التزكية لن نعرف من زكاه ومن أية جغرافيا في الداخل والخارج، وهو شرط صحة التزكيات.
رجل هادئ طيع ناجح في عمله الخاص، بلا ماضٍ أيديولوجي، ولا يستعمل معاجم النخبة المعروفة بل يعطي انطباعًا بأنه تكنوقراط عملي بلُغة إدارية سلسة، وهو بروفايل مطلوب لمرحلة الخروج من اضطراب سياسي وفشل اقتصادي واجتماعي.
لم يتكلم بسوء عن فرنسا ولا عن أحلاف خارجية محتملة حتى الآن، وسياساته الخارجية لم تنكشف، وننتظر مرحلة الدعاية الانتخابية قبل 6 أكتوبر/ تشرين الأول لنسمعه أكثر. هل هو رئيسنا القادم؟ أعدَّ لنا في مواجهة الرئيس الحالي بحيث نهرب إلى غموضه من رعبنا من وضوح الرئيس الحالي، فنذهب إلى الصناديق لنصوّت له كأننا نملك الخيار فعلًا؟
أيها القارئ المبجّل هذه تخمينات، فإن كنت مهتمًّا فتربّص بها جانباً حتى تتضح لنا الصورة، فالمعطى الثابت الوحيد في الساحة التونسية هو الغموض.