مع بداية 2020 نشهد تحولاً دراماتيكياً في منطقة الربيع العربي عامة وفي منطقة شمال أفريقيا خاصة. لقد انتهى دور حفتر أو يكاد، فالضغوط الدولية خصوصاً مع جهود تركيا وروسيا باتت في ازدياد، وهو ما يوحي برغبة المجتمع الدولي في رؤية حل سلمي للأزمة الليبية.
وبناء عليه ربما تشهد المنطقة مرحلة أخرى مختلفة قد تنتهي ببناء دولة ليبية حديثة ويوصد التاريخ بابه على ميراث العقيد القذافي السياسي الذي خرب ليبيا. في الأثناء سيكون لإنهاء القتال الدائر تأثير مباشر على الوضع السياسي في تونس. نعمل هنا على محاولة فهم هذه التأثيرات فكيف ستكون؟ ومن الرابح ومن الخاسر في تونس بخاصة مع الموت المحتمل لمشروع حفتر السياسي والعسكري؟
لم يكن خافياً على أية قراءة أن ما يجري في ليبيا يمس بشكل مباشر الوضع السياسي والاقتصادي في تونس. فالاضطراب هناك يعني توجس الدولة التونسية من العدوى. بخاصة أن العنصر المجهول المتنقل بين الجغرافيا من دون رقابة -أي الإرهاب- عشش في ليبيا، وظل يهدد تونس بالتدخل والتخريب.
فضلاً عن ذلك فإن ليبيا كانت ولا تزال وستظل رئة اقتصادية لتونس لجهة انتقال العمالة المتوسطة والحرفية. ولجهة التصدير بخاصة في المصنوعات الضرورية والمواد الغذائية. وكل اضطراب هناك ينعكس تجميداً للتصدير، ونكوصاً للعمالة بما يرفع درجات التوتر الاجتماعي في تونس.
وإلى ذلك نضيف أن جزء كبيراً من السكان الليبيين ينتقلون في حالة الأزمات إلى تونس بحثاً عن السلامة فيزيدون على الرغم من إنفاقهم البالغ في الضغط على الاقتصاد التونسي المتأزم.
لكن التأثير الاقتصادي والاجتماعي ليس كل شيء. ففي تونس يوجد انقسام سياسي حاد بين أنصار حفتر (أو طابوره السياسي) وبين أنصار الشرعية في ليبيا. وهو جزء من الخلاف الأيديولوجي حول مخرجات الربيع العربي التي تعتبر الثورتين التونسية والليبية حدثاً مؤسساً فيه.
وقد حظي حفتر بأنصار فرضوا أجندته على الوضع في تونس وجعل الدولة التونسية تجامله خوفاً من أنصاره في تونس. حتى إنه تجرأ على اقتحام القصر الرئاسي في زمن الرئيس الباجي مسلحاً، في حركة استعراضية لا تخلو من صيغة تهديد.
ماذا لو سقط حفتر؟
أولاً وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي سيحصل نوع من عودة الاستقرار. فمن المتوقع عودة النشاط الاقتصادي الكبير المتمثل بتصدير المواد المعاشية والأدواتية وتبادل العمال خصوصاً في ظل الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار.
لكن الانعكاس السياسي على الوضع الداخلي في تونس سيكون هو التأثير الأكبر. فطابور حفتر يفقد نصيره القريب. كما يفقد نصرة أنصار حفتر من العرب المعادين للربيع العربي، وبالتحديد الإمارات والسعودية ومصر، وهم الذين يحاولون استعمال حفتر كمخلب للنيل من تونس والجزائر.
بدأنا نتحسس في تونس خيبة أنصار حفتر وانكسارهم. وهي فئات مختلفة من فلول تجمع بن علي إلى تنظيمات اليسار المتطرف إلى القوميين العرب العائشين بعد على نوستالجيا القذافي وتمويلاته. لكنها تجتمع كلها على معاداة التيار الإسلامي الذي يناصر الشرعية في طرابلس.
علامات ذلك الهجوم الكاسح الذي شنه هؤلاء على دور تركيا في ليبيا. كذلك فإن قراءة هؤلاء للتفاهمات التركية الروسية في سوريا ولصفقة الغاز تشي بخيبة كبيرة. فقد كانوا يعولون على دور حاسم لروسيا في ليبيا مشابهاً دورها في سوريا. ولكن التفاهمات الروسية التركية التي ذهبت مباشرة إلى إلجام حفتر وكف أذاه أوجعت كل المعولين على اصطفاف وراء روسيا في ليبيا.
لقد انكشف بسرعة أن طابور حفتر في تونس قادر بغيره لا بنفسه. ولذلك فهو يعيش حالة من الخذلان المر لما أعلن عنه من دخول في مسار حل سلمي في ليبيا من شأنه أن ينهي النزاع ويخلق حالة من الانتقال نحو دولة ديمقراطية.
الربيع العربي يحتاج إلى رافعة
هذه بداهة واضحة، فالسلم تضمن التقدم نحو الصندوق الانتخابي الذي يتكفل ببناء مؤسسات الحكم في وضع السلم. ونميل إلى الاعتقاد أن إنهاء القتال في ليبيا ليس له من مخرجات إلا الشروع في المسار الانتقال الديمقراطي المعطل بعد بداية متعثرة ساهم أعداء الربيع العربي في تعطيلها وكسرها أملاً في إخراج ليبيا ثم تونس من مسار بناء الديمقراطية (مثلما فعلوا في مصر).
ومهما كانت سرعته وقدرته على اختصار الوقت فإنه سيتقدم نحو إرساء حالة من الأمل في الخروج من وضع الاقتتال الداخلي الذي يخرب كل شيء وينهي فوضى السلاح ويحول المليشيات إلى نواة جيش دولة مستقرة.
وعلى حدود ليبيا تنعكس حالة السلم على تطور العملية السياسية. فلن يجد العاجزون بذاتهم والقادرون بغيرهم وسيلة أخرى ينتظرون منها مد يد المساعدة إليهم في الداخل التونسي.
إنها حالة من التحول الإيجابي في المنطقة بدأت بوقف إطلاق النار (ونأمل أن يستمر) وستنتهي في تقديرنا بحالة سلم دائمة (لا نتوقع أنْ سيكون ذلك غداً) ولكنها بدايات عودة الثورة الليبية إلى أجندتها الأصلية وبناء دولة ليبية حديثة وديمقراطية تنهي ميراث الفوضى القذافيّ التي أعاد إنتاجها حفتر طريد القذافي نفسه لغير مصلحة ليبيا. ليبيا الآن في وضع الاستعداد لإنجاز مطالب ثورة 17 فبراير. ولا نملك لها إلا الدعاء بالتوفيق.