عاش البرلمان التونسي يوم 13 من شهر يونيو/حزيران 2019 معركة كاسرة بين قوى سياسية مختلفة من أجل تعديل القانون المنظم للانتخابات، كانت الكتلة البرلمانية الموالية لرئيس الحكومة (وهي كتلة أخذها من حزبه الأصلي النداء) قد تقدمت بمقترح تعديلي يمنع مالكي مؤسسات إعلامية ورؤساء الجمعيات الخيرية ومسؤوليها الترشح للبرلمان ولرئاسة الجمهورية.
والتقى (الشيخان) رئيس حركة النهضة مع رئيس الجمهورية قبل الجلسة البرلمانية للتوافق مرة أخرى على قبول التعديل وتمريره في البرلمان لأن استطلاعات الرأي كشفت أن السيد نبيل القروي يكتسح نوايا التصويت، بما أشعر الجميع بخطره القادم.
مقترح على المقاس
فهم منذ البداية أن المقترح موجه بالأساس ضد منافس خطير لرئيس الحكومة هو نبيل القروي مالك قناة نسمة الفضائية الخاصة ورئيس جمعية خليل الخير وهي جمعية خيرية سماها باسم ابنه الذي توفي في حادث سير منذ سنتين وقد دأب من خلالها ومن خلال تلفزته الخاصة على تنظيم حملات تبرع وتوزيع أغذية ومنافع مختلفة على فئات فقيرة قبل أن يكشف نواياه في الترشح لرئاسة الجمهورية.
لم يرتكب السيد القروي مخالفات للقوانين المرعية بل تسرب من الفجوات وعمل بكد على فرض اسمه ضمن الشخصيات السياسية، بل كشف وجهًا سياسيًا مغامرًا لا يخشى أحدًا من الموجودين ذوي الأسماء التاريخية الذين صنعوا أسماءهم بمعارضة نظام بن علي سابقًا، مرت مرحلة طويلة استعمل فيها تلفزته وأغرى الكثيرين بالظهور فيها.
ابتز القروي الجميع بقناته، فقد اشتغل كقاطع طريق فعلي يعمل بذكاء وله ترسانة من العارفين بالقانون، وجاءته الشخصيات السياسية زاحفة راغبة في سلطته الإعلامية (باستثناء الدكتور منصف المرزوقي) وهو الذي تبجح بأنه صنع الرئيس الباجي من العدم وأوصله إلى سدة قرطاج سنة 2014.
كان الرجل يشتغل لحسابه منذ البداية ضمن خطة محكمة لتوريط الجميع وتسجيل موقف الخضوع (وما خفي أعظم)، ثم الظهور السريع والحاسم في المربع الأخير، فقد كان سباق مسافات طويلة دفع فيه المتسابقين إلى الفشل ثم تقدم السباق في الأمتار الأخيرة فأرعبهم فاتخذوا البرلمان وسيلة لمنعه من الوصول لكن الوقت تأخر كثيرًا، والرجل الآن وبعد فشل جلسة البرلمان في طريق مفتوح إلى قرطاج.
تأخر السؤال: هل هو رجل ديمقراطي؟ كان يجب طرح السؤال عند انطلاق السباق أما وقد أكل الكثيرون على مائدته فالسؤال الآن لا معنى له، فقد خدع الجميع بالقانون الجاري، وهو صاحب حق وفي وضع قانوني للترشح.
حزب النهضة خضع للابتزاز
كانت حركة النهضة إحدى القوى السياسية التي هادنت القروي خوفًا من جهازه الإعلامي، وظهر كأن هناك صفقة بينهما أن لا يتعرض لها بالنقد مقابل تركه يمارس لعبته الجديدة في صناعة اسمه في سوق السياسة، فبعد أن كانت هوايته تدمير حزب النهضة صمت عنها واجتنب هرسلتها، فكانت الهدنة بين الجانبين.
وحتى وقت قريب وقف الحزب معه في قضية أثارها ضده الشاهد (رئيس الحكومة) تتعلق بالتهرب الضريبي وادعى عليه بأن قناته تعمل خارج القانون، ففشلت الضربة، لكن حزب النهضة ظهر في جلسة الأمس قريبًا من تمرير التعديل على القانون الانتخابي، فقد انكشف الخطر الذي لم يستشعره الحزب في حينه، فحاول الاستدراك لكن الجلسة فشلت لغياب النصاب القانوني، فتغيب أكثر من نصف كتلة حركة النهضة عن الجلسة رغم حرص رئيس الحزب على تمرير التعديل.
ونقول استباقًا وفي غياب مرشح للنهضة لمنصب الرئيس حتى الآن، إن القروي قد يكون العصفور النادر الذي يبحث عنه رئيس الحركة في الدور الثاني، ليسوق إليه تصويت قواعد الحزب مقابل صفقة إعلامية لن يقدم فيها القروي الكثير، فالمبتز يعرف كيف يجني الإتاوة.
إن موقف النهضة المرعوب من الإعلام والمناور في اللحظة الأخيرة هو أحد عناوين فشل الحزب في سياسته الإعلامية التي جرت عليه كوارث أخلاقية وسياسية، وقد يشعر بالسعادة إذا كف عنه القروي لسان قناته مقابل تسليمه المنصب الأول، وسيكون هذا ملف العار الذي يأكل مصداقية الحزب الأخلاقية بين الناس.
لقد روج الحزب لموقع الضحية المقهورة إعلاميًا حتى انتهى ضحية فعلاً لكل أشكال الابتزاز، ونعتقد أن أوان الاستدراك قد فات في هذا الملف، فالعصفور النادر سيكون نسرًا كاسرًا في قرطاج وسيبدأ بحزب النهضة حتى لا يصل إلى مرحلة المن عليه بالمنصب.
القروي وجه تونس الحقيقي
لقد كانت إحدى شواغل الكتابة عندي منذ الثورة هي البحث في طبيعة شخصية التونسي وكان يلفت انتباهي دومًا سرعة الصفقات التي تجري بين مختلفين واجتناب المصادمات المبدأية وتحمل كلفتها. يذهب البعض إلى حد استعادة ابن خلدون في حديثه عن الفرق بين شعوب البسائط (السهول) وشعوب الجبال، حيث للجغرافيا الطبيعية دور في صناعة الشخصية الأساسية (بين الخضوع أو الخنوع والتمرد أو الثورة)، ولكن في التوافقات التونسية ينكشف جانب لا مبدئي أو غير أخلاقي يضحي فيه المتوافقون بالمطلوب شعبيًا من أجل تمكين نخب وقوى فئوية.
فعل اليسار ذلك بكل يسر في اعتصام باردو 2013 فاسقط نتائج انتخابات 2011 ورأى عودة النظام القديم مظفرًا على مطالب الثورة، وفعل الإسلاميون ذلك بإكمال التوافق مع المنظومة الفاسدة فانتهى جالسًا خلفها يحميها من السقوط ويبرر لها باسم الحفاظ على الدولة من الانهيار.
لا يختلف المتوافقون في شيء، فجميعهم ارتعب من التغيير الحقيقي وناور ضده بحجج مختلفة، فانكشفت الشخصية الخانعة التي تشتغل بمبدأ الغنم والبقاء بأخف الأضرار وبأقل الأثمان، ففي هذا المشهد يبرز حتمًا الأكثر جرأة على الأخلاق وعلى المبادئ، فكان نبيل القروي.
لقد كشف أن الثوريين ليسوا ثوريين وأن نضالهم الحنجوري ضد بن علي كان نفاقًا ولذلك يمسك عليهم زلاتهم وضعفهم ولا مبدئيتهم ويقول لهم: أعرفكم جيدًا ولا أحد يمكنه المزايدة علي بالثورية فالشعب الجائع لم ينل منكم خبزة وقد وجدت رغم حنجورياتكم المدخل لكسب وده، لقد أطمعتموه وكذبتم عليه ومارستم الابتزاز وخفتم من المبتزين وها أنا أفعل بنفس وسائلكم وقد أفلحت وستأتون خاضعين، وسيكون الصراع بين من يبتز أكثر، بما في ذلك نقابة الابتزاز التي مكنتها من صوت إعلامي وجعلت نتائج معاركها تنتهي في سلتي، وسيختم كل حديثه بجملة منتصرة البقاء للأذكى وأنا الأذكى لأني الأكثر جرأة على نفاقكم.
القروي ليس عندي اسمًا بعينه، ولكن علامة على ظهور سياسي جديد يكثف لامبدئية النخبة التونسية، ونفاقها المنهجي للشعب، فكل مفردات خطابها استعادها القروي واستعملها، ولو كانت صدقت في الخطاب والممارسة لما ظهر القروي ولا ملك قناة واستعملها، فقد كان الجميع يعرف أنه كان بوق بن علي ولسانه الذي لم تقطعه الثورة بل مدده الثوريون ضد بعضهم بتخطيط من القروي وفريقه ضمن سباق مسافات طويلة لم يروا نهايته إلا البارحة.
هذا السياسي الجديد يلخص التونسي في سعيه الغريزي البدائي للمغنم دون أي نفاق ثوري دأب على ترديده زمن بن علي، إنه نسخة مطورة من سليم الرياحي ومن حزب آفاق ومشروع تونس ونقابة الابتزاز المحترفة ومن كل انتهازي كشفته الثورة ولم تقض عليه، لأن الثوريين لم يكونوا في باطنهم سوى نسخ أخرى لكن بوسائل تظهر الآن بدائية مقارنة بوسائل نبيل القروي، سينال التونسيون بالقروي ما يشتهون سيكون رئيسًا مطابقًا لأخلاقهم وهواهم وسيجرهم إلى أكثر الوسائل السياسية انحطاطًا، فهو صورتهم التي موهوها بالثورية. سيريحهم من وجع العيش بوجه ثوري وباطن تحكمه أخلاق التجار.
بعد القروي سيكون من الأصلح لمن يراقب التجربة التونسية أن يحرر قلمه من الحديث عن مثال تونسي ناجح.