ظاهر الأمر حفلة ديمقراطية وباطنها عذاب شعب حائر بين أسماء "الرؤساء"، حيث يفتقد الجمهور المتابع الطمأنينة لكثرة الأسماء التي تملأ المشهد، مع غياب الحد الأدنى من العقلانية في الترشحات، وانتظر الكثيرون بعض التعقل ولكن هجم الرؤساء على الهيئة الانتخابية، "عار ولابس" كما يقول التونسيون، دون استيفاء الكثير من الشروط الشكلية للتقدم للمنصب.
قال كثيرون لا بأس في ذلك في بلد عربي بلغ السبعين سنة من الدولة الوطنية برئيسين ونصف وذهب البعض إلى مباهاة العرب الذين يعيشون تحت البوط العسكري، غير أن آخرين انتبهوا إلى امتهان المنصب من أشخاص من غير ذوي التجربة والحنكة والماضي السياسي والنضالي، وظل السؤال معلقًا: من يكون الرئيس القادم؟
لم نسمع حديث البرامج
الصور متقنة وفرق الكوم قرأت دروسها جيدًا والخطاب العام جميل ولكن عندما نلح على مرشح: ماذا لديك لننتخبك؟ يقول بسرعة: الدستور قلص سلطات الرئيس التنفيذية وأبقى له دورًا بروتوكوليًا، إذن لماذا تقدم نفسك لمنصب بلا مهمة؟ كثيرون يغصون بريقهم أمام السؤال لأنه يكشف الطموح النرجسي لا البرنامج السياسي، فنحن أمام موجة من النرجسية المفرطة في حب الذات والمغرمة بصورها في المرايا، ونعتقد أن هذه الذوات المنتفخة ستفسد المهرجان الانتخابي وتحوله إلى كوميديا سوداء.
هذه النرجسية تظهر أيضًا في عدد المتقدمين للتشريعية، فعدد المرشحين يوشك أن يفوق عدد الناخبين ولا شك أن ورقة الانتخابات ستكون من الحجم الكبير وسيعسر على جمهور أمي في الغالب العثور فيها على اسم مرشحه.
إن قانون الفوز بأكبر البقايا سينتج مرة أخرى برلمانًا مشتتًا وبلا هوية سياسية وسيجعل العمل البرلماني عسيرًا وغير منتج ولن يجرؤ بل سيحرص النواب الفائزون بأكبر البقايا على عدم تغيير القانون الانتخابي فهو ضامن الفوز بأقل عدد من الأصوات.
لن أتحدث هنا عن حظوظ المرشحين، فالأكيد أن عددهم سيشتت التصويت ويفرض المرور إلى دور ثانٍ والأكيد أيضًا أن موقف حزب النهضة سيكون محددًا في وصول أي مرشح للمنصب، فمنذ 48 ساعة تحبس الطبقة السياسية أنفاسها في انتظار قرار الحزب الذي يعقد شوراه ليقرر مرشحه من داخله أم يساند مرشحًا من غير كوادر الحزب. وإن كانت تسريبات كثيرة مرجحة أن الموقف سيكون مرحلة أخرى من الاختفاء خلف مرشح غير مؤذ للحزب وهو موقف حذر بل مفرط في حذره ويصفه البعض بالتخاذل.
ويرى البعض أن ترشح رئيس الحزب للبرلمان يعني أن الحزب لا يريد أن يهيمن على الحياة السياسية لأنه يولي أهمية كبيرة للموقف الخارجي الذي لا يزال يرفض الحزب، فضلاً على أن تقاسم المواقع يخفف عنه الكره الغريزي الذي تحمله له النخبة السياسية وريثة نظام بن علي.
دبلوماسية محافظة
نتذكر هنا التبريرات التي كانت تلقى على مسامعنا بخصوص كسل الرئيس الباجي - رحمه الله - في تجديد الدبلوماسية التونسية وهو الدبلوماسي السابق وأهمها أن لتونس تقاليدًا راسخة أرساها الزعيم بورقيبة لا يمكن تغييرها وأهمها الحياد أو صفر مشاكل مع الجيران والأصدقاء. ويبدو أن المتقدمين الآن يتجهون إلى المحافظة على هذه السياسة، فهم يخافون التغيير أو في أفضل الحالات يعومون المواقف التي انتظرتها الثورة ومنها الموقف من القضية الفلسطينية ويعتبرون مخرجات أوسلو هي الشرعية الفلسطينية ويقفون خلفها حتى لا يتورطوا في مساندة المقاومة، فيخسرون أمام الوكالات السياحية التي ملأت النزل في صيف 2019 بعد تعيين وزير يهودي على رأسها.
الوقوف مع المقاومة يعني خسائر اقتصادية في الداخل التونسي ولوبي السياحة والأعمال (المرتبط خاصة بالاقتصاد الفرنسي) يضغط في اتجاه تجاهل القضية ويملك أجهزة تضليل سياسي تحول الموقف مع المقاومة إلى موقف وولاء لحماس أي الإخوان المسلمين (الإرهابيين).
أجهزة التضليل هذه هي التي سخرت من الرئيس السابق الدكتور المرزوقي عندما شارك في قافلة فك الحصار على غزة وصوروا الأمر كشعبوية (قذافية متأخرة)، فأفرغوا الزيارة من زخمها واجتنبوا أذى الدول الراعية (بالتحديد فرنسا)، وهم أنفسهم الذين سخروا من الرجل وفريقه عندما تحدث عن الحريات الخمسة بين مواطني المغرب العربي وفتح باب التواصل الاقتصادي مع البلدان الإفريقية وهو سبيل دبلوماسي وسياسي غير مطروق.
آلة التضليل هي التي رفضت أن يكون لتونس موقف حاسم في قضية الصحفي خاشقجي وتهربت من موقف واضح من حرب اليمن وهي التي ترفض أن تصطف مع الثورة الليبية وتستقبل المجرم حفتر مسلحًا في قصر قرطاج. دبلوماسية تخاف من آل سعود بل تخشى حكام الإمارات، فآلة التضليل المحترفة جعلت من السفير الفرنسي ضيفًا في بيوت التونسيين كأنه سائح طيب القلب جاء يتذوق طعامنا.
في خطاب المتقدمين للمنصب الذي سمعنا حتى الآن يبجل خطاب المحافظة على الثوابت على خطاب التغيير العميق في السياسات الخارجية، والبعض يسارع إلى تذكرينا بأن الانقلاب في مصر حدث بعد أن اتجه الرئيس مرسي - رحمه الله - إلى بلدان البريكس عازمًا على تغيير شبكة العلاقات الموروثة عن عهود حكم عسكر المعونة، وهو بذلك يعطي حقًا للانقلابيين ومن حرضهم ليظل الوضع على ما هو عليه.
لماذا تتقدم للمنصب إذا لم تكن لديك خطة دبلوماسية منطلقة من مطالب الثورة؟ ألتعيد إنتاج نفس السياسات؟
ولن أخوض في أمور الدفاع التي يرعاها الرئيس بحكم الدستور، يكفي أن أذكر أن الخيال المحافظ جعل الجيش فريق دفن ينظم الجنازات ولا نعلم ماذا كان قد كلف المجندين بحفر قبر الرئيس، وهي صورة للجيش لا تعطيه مكانته كضامن للأمن الخارجي للبلاد، بل تواصل ترسيخ فكرة بورقيبة عن جيش غير مسيس يُستدعى للمهام المدنية كتجميع الحبوب من المزارع.
دور الخارج في الداخل؟
أخشى أن أكون قد كررت الحديث عن دور الدول الخارجية ذات السلطان على الدولة التونسية ونخبتها منذ الاستقلال، فإلى جانب ما ذكرت أعلاه من الحسابات الاقتصادية للوبي السياحة والأعمال المؤثر على السياسات الخارجية فإن دولاً مثل فرنسا تتدخل بشكل سافر في تحديد توجهات النخبة وتحسب لها النخبة ألف حساب بل تنسق معها وتعرض عليها مرشحيها للتزكية، فالذي لا تريده فرنسا لا يمكن أن يكون رئيسًا، وهذه الخشية أول ما نراها عند حزب النهضة الذي يتحدى فرنسا ويعرف مسبقًا أن حظوظه ضعيفة ولذلك يتحدث عن السيادة واستقلال القرار الوطني من موقع المزايدة لا أكثر.
ليس لدى أي مرشح جدي خطاب واضح في هذه المسألة، بل قبول ضمني بنوع من الوصاية، فتسمع في المجالس: فرنسا لا تريد فلانًا وإيطاليا لا تريد علانًا وألمانيا تميل إلى زيد بينما أمريكا ترجح عمرو.
لهذا الموقف كلفة عالية جدًا في الصندوق وفي التمويل خاصة، وله كلفة بعد النجاح، ففرنسا تملك مفاتيح أوروبا ويمكن أن تغلقها أمام المنتجات التونسية الزراعية والصناعية وهو وضع ترسخ منذ الاستقلال ولا أحد يجرؤ على خلخلته، وهو ما يجعل انتخابات تونس صورية في عمقها ويجعل رئيسها ملحقًا دبلوماسيًا بالخارجية الفرنسية وكرست مرحلة الباجي الأمر كقدر مقدور.
تتجمع هذه المعطيات أمام التحليل لنقول بكثير من الألم إن الثورة لم تحرر النخبة السياسية، فلم تتحرر السياسات الخارجية للبلد، ولا نرى في المتقدمين للمنصب عزيمة خوض معركة استقلال حقيقية وتوجيه البلد وجهات تحرره من هذه الهيمنة، بل نسمع مبررات تأجيل للحسم وكل تأجيل تأبيد، لذلك نخفض سقف التوقعات من الانتخابات ولو ترشح نصف التونسيين للمقعد.
لقد كانت ثورة استقلال حولها النرجسيون إلى معركة مناصب ورواتب وتاه الناس وراء أسماء لا يعرفونها وغلب على الكثيرين خطاب السخرية من وضع أفلت من بين أيديهم ولا يجدون في أنفسهم عزيمة إعادة قطار الثورة إلى مساره، ويكفي أن يذكر كاتب كلمة ثورة ليرجم بالشعبوية والمزايدة وسندروم القذافية المتأخرة، هل نكتفي بالحوقلة؟ سندعو إلى عدم المشاركة في جريمة تأبيد الوضع القائم وهو الحد الأدنى من الشجاعة.