هذا ليس مقالا في التاريخ المتخصص، وإنما هو أقرب إلى التأملات التي يحرّضها يأس متراكم، وقد تحتمل تعسفا على التفاصيل الصغيرة التي تصنع وقائع كبيرة، ولكن لن نرد القلم عن خاطرة تسندها وقائع لا يمكن إخفاؤها خلف خطاب الوطنية المدفوع الأجر، فلم نؤجر قلمنا ولا ننوي.
يوجد تاريخ رسمي للدولة صنعه جهاز إعلامي مدرب على الدعاية ولا يستند إلى وقائع؛ بقدر ما يروج لأوهام رغبت دولة الاستقلال في توليفها لتجعل من نفسها تاج التاريخ المتأخر المبني على مجد تليد في الكتاب المدرسي وفي التلفزيون الرسمي منذ أنشأت الحكومات أجهزة حديثة للدعاية. سنضع وقائع كثيرة في سياق تتابعي ونرى كم مرة غيّر أهل البلد بلدهم بإرادتهم الخالصة دون تدخل من جهة خارجية.
قرطاج الفينيقية وروما قوتان وافدتان
لم يجد المؤرخ الرسمي وقائع كثيرة تمكنه من بناء تاريخ تونسي قبل قرطاج، فقد كانت مرحلة بلا كتابة خاصة إذا زامنها بتاريخ مصر وبلاد الرافدين. وفي هذه الأيام عندما يحاول المؤرخ الرسمي خلق تاريخ أمازيغي (بربري) قبل فينيقي، فإنه لا يجد في الأحافير ما يملأ فراغات نصه.
جاء فينيقيون من الشرق كأول قوة وافدة من خارج البلد واستوطنوا الساحل ولم يدخلوا البلد، لقد كانت الدواخل مكانا لتجنيد المرتزقة فقط. كل شواهد المرور الفينيقي بتونس بقيت في الساحل، مثل شواهد مرورهم بأيبيريا (إسبانيا) حيث لهم هناك قرطاج أخرى. لم يغير القرطاجيون كثيرا في حال البلد، لذلك امَّحُوا مع هزيمتهم التاريخية أمام شيبيون الروماني، وإرثهم الوحيد أسطورة شراء أرض مقابل جلد ثور في عملية احتيال تاريخية تكشف احتقار الوافد للمحلي.
الرومان ثم البيزنطيون قوة ثانية وفدت من الخارج وغيّرت البلد؛ أحدثت فيه ثورة زراعية كبيرة وموّلت من قموحه جيوش روما على كل الجبهات. شواهد المعمار الروماني كثيرة وتدل على استعمار طال أمده، ولكن ليس في ما نرى من شواهده أثر من طابع محلي. لقد كان وافدا يحمل كتابة في بلاد بلا كتابة، فكتب نصه على جدرانها حتى أفلت حضارته واندحر أمام وافد جديد لا أمام ثورات تحرر محلية. لقد كانت هناك تمردات محلية لم تفلح في تحرير الأرض من المحتل الروماني بله بناء كيان سياسي مستقل عن روما، لذلك لم يحقق المؤرخ الرسمي بغيته بنفخها في الكتاب المدرسي أو إطلاق اسم ثوارها على الشوارع.
العرب الوافدون حكموا البلد
يمكن لمؤرخ مسلم أن يزدهي بحديث الفتوحات، لكن لا يستطيع أن ينفي أن حامل النص الديني الجديد جاء كقوة غازية من الخارج، واستسهل البسائط فاستولى عليها وعسرت عليه الجبال حتى طاب لها الدين الجديد.
باستثناء حاكم بيزنطي مستقل (انزوى بعدا عن البحر والأساطيل)، لم يجد الغازي أو الفاتح العربي قوة صد كبيرة، وحديث الكاهنة البربرية وردها للعرب كتبها مؤرخون فرنسيون ضمن محاولة خلق أسطورة حضارة سابقة على الغزو العربي خربها العرب. الاختلاف بين الوافد العربي والوافد الروماني أو القرطاجي أنه اختلط بالسكان ولم يغلق عليه باب قلعته، فخيمته المفتوحة سهلت التواصل. وقد وجد الساكن المحلي (الذي لم نعثر أبدا على تقدير تقريبي لعدده لنخمن حجمه) عند الوافد العربي لغة مكتوبة فأخذها ودينا سهلا فاتبعه.
حدثت عملية تواصل وتفاعل طويلة خففت شعور المحلي بالغزو الخارجي ثم محته، وقطعت الوافد الشرقي عن أصله فصار له أصل جديد. واستمر التوافد والتفاعل ثم التماهي فترة طويلة، فاتخذ البلد هوية جديدة تعرّب فيها البربر وتبربر فيها العرب في المطبخ والملبس لا في اللغة ولا في الدين، لكن ذلك لم يكن سبيلا لمنعة سياسية أبدية لا تهتز، فقد سقطت الدول تباعا ودخل البلد في فترات فوضى وفراغ سياسي، خاصة بعد وفود العرب الهلالية وانهيار دولة الفاطميين (الذين هم في الأصل تنويعة وافدة من المغرب وهربت نحو المشرق وتركت أثرا غير محمود).
لم يخرج البلد من الفوضى الهلالية إلا بغزو خارجي؛ هذه المرة جاء من الغرب فتَسمّى مرة الموحدين ومرة المرابطين ومرة الحفصيين، وأقام الدول وحكم المحليين حكما عضوضا حتى انهار بدوره تحت غزو خارجي وفَدَ من إسبانيا الكاثوليكية التي واصلت حروبا صليبية. وكان السكان المحليون حقلا للقهر والتدمير والتهجير إلى الفيافي الصحراوية، حتى جاءتهم نجدة خارجية عثمانية تحت رايات إسلامية فحكمتهم بنفس الطريقة، وكان من حكامها من يقوم صباحا ليُفْطِر سيفه (البالة) بدماء الخلق.
احتلال فرنسي غاشم وقاهر
استخرج الفرنسيون (وهم قوة غزو خارجية بعقل صليبي) البلد بقوة السلاح من يد العثمانيين أو ولاتهم شبه المستقلين، وحكموا بالحديد والنار ونهبوا الثروات واستعبدوا السكان وساموهم الخسف ودرّبوا نصفهم على الوشاية بالنصف الآخر فاخترقوا الأرواح بعد الأبدان. وحوّلوا البلد إلى مزرعة خاصة، حتى أنهم كانوا يغرون شبابهم للمجيء إلى المستعمرة بتوفر اللحم الرخيص اللذيذ.
ثلاثة أرباع قرن دون مقاومة تذكر، فلما قامت بعض مقاومة شعبية بمطلب تحرير كانت صدى لحركات تحرر أكبر انطلقت في كل العالم المحتل من آسيا إلى أفريقيا. وكان البلد الوحيد عبر التاريخ وفي العالم الذي سلم سلاحه لعدوه قبل نهاية المعركة هو تونس، وكان ذلك وسيلة ليحكم البلد برعاية المحتل القديم. وحتى اللحظة التي تكتب فيها هذه الورقة تصول فرنسا وتجول في الأرجاء، ويملي رئيسها في جزيرة جربة على حاكم تونس ما عليه فعله ليبقى البلد حديقة خلفية لفرنسا.
عبر هذا التاريخ الطويل تتوفر شواهد قليلة على تمرد شعبي أو انتفاض مقهور لم يفرض مرة واحدة شروطه على سلطة وافدة. توجد شواهد كثيرة على عمليات قبول وهضم واستيعاب وتذويب للوافد، لكن لم يحدث أن طرد المحليون غازيا اقتحم أرضهم وحكمهم. ولا نجد في أية سلطة قامت بهذه الربوع ما يثبت أنها منتج محلي أفرزه السكان من بينهم بالثورة أو بالديمقراطية، حتى حكومات الاستقلال ورئيسها نجد الآن ما يثبت أنهم صُنعوا على عين المحتل، واغتالوا خصومهم ليتمكنوا من السلطة وليفعلوا بالبلد ما لم يفلح المحتل في فعله طيلة ثلاثة أرباع القرن. لقد أُغلق جامع الزيتونة المعمور وألغيت مؤسساته التعليمة وهي المؤسسة الوحيدة التي كانت تمنح البلد هوية فارقة، وتم التمكين للغة الفرنسية مقابل التمتع بسلطة على شعب أمي ومفقر.
هل حقّرت بلدي؟
لا أشعر بالذنب ولا أكابر، لكني أمسح من وعيي الرواية الرسمية للتاريخ. بلادي بسيطة مفتوحة للهيمنة، وأهلي مسالمون أو جبناء فالنتيجة واحدة، لقد حُكمت أرضنا عبر تاريخها الطويل من خارجها دوما وليس يعزيني أننا شعب منفتح يهضم الغير (الوافد) ويستوعبه، وهذا خطاب تبرير غير علمي، بل محمول على أيديولوجيا تبرر الهزيمة. يفخر رواة التاريخ الرسمي بأن تونس هي البلد الوحيد الذي عرّب أتراكه الوافدين، لكن صاحب الرواية الرسمية يتغافل عن أن ذلك تم عبر استعمال مَخادِع النساء..
والآن ونحن نعاني أثر الانقلاب الذي رتب في دوائر مخابرات أجنبية ضد التجربة اليتيمة في التاريخ والتي كانت ستنقض كل قولي المذكور أعلاه، نراقب صامتين ما تخطط لنا دوائر الاستخبار العالمي. إن بأس التونسيين بينهم شديد ولا مؤشر على أنهم قادرون على الاتفاق حول مخارج سياسة سيادية، بل إن مؤشرات طلب العون الأجنبي ضد بعضهم البعض غالبة على مواقفهم (تماما كما طلب أبو الحسن الحفصي نجدة شارل الخامس ضد العربان الهائجة فاحتل بلده وربط خيوله في الجامع الأعظم)، بما يبقينا تحت ظل القراءة المحبطة التي اختصرتها أعلاه ولست سعيدا بذلك البتة.