في المنطقة العربية كان العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين هو قرن الاضطرابات السياسية بامتياز، انطلقت فيه الثورة العربية من تونس وامتدت إلى كامل الأقطار وانتهت أغلب الثورات حتى الآن إلى حالة من التعطل بالانقلاب المصري والحرب الأهلية السورية والتدخل السافر من قوى الجوار في ليبيا واليمن، لكن الثورة التي اضطربت هناك عاودت الانفجار في العراق ولبنان ولا تزال الآمال معلقة على استئناف ثوري يأتي من فشل الانقلاب المصري في تدبير خبز الناس.
لكن خارج تحليل الأفعال السياسية الظاهرة تفرض أسئلة اجتماعية نفسها عن أسباب التحركات الثورية والقوى الاجتماعية التي ساهمت فيها، حيث لا تزال هناك حيرة معرفية بالنظر إلى طبيعة هذه الثورات المختلفة عن الرسم التقليدي المتعارف عليه لثورات القرن التاسع عشر.
أطروحة بناء الطبقة الوسطى لبناء الديمقراطية
في مرحلة فرض المقرضين الدوليين لبرامج الإصلاح الهيكلي خاصة على بلدان العالم الثالث سوّقت أطروحة تقوم على أنه يجب خلق طبقة وسطى قوية تقوم على المبادرة الفردية في مجال الكسب لتتجاوز الاقتصاديات الريعية للدول الاجتماعية الفاشلة والفاقدة للموارد، وروجت الأطروحة أن بناء هذه الطبقة سيكون قاعدة اقتصادية واجتماعية لبناء الديمقراطية السياسية انطلاقًا من التطلعات التحديثية لمكونات الطبقة الوسطى المتعلمة والطموحة.
يقدم المثال التونسي نموذجًا مدرسيًا في تطبيق هذه الأطروحة، فقد أدخل البلد في برنامج إصلاح هيكلي منذ 1986 وتكرس بتغيير سياسي قسري بقيادة بن علي الذي وضع برامج استهلاك سريعة باسم تمكين الطبقة الوسطى لم توازه برامج لتحفيز المبادرة الفردية، وإنما توسعت الطبقة في الإدارة لترضية النقابات سياسية، فكان عمادها موظفو القطاع العمومي (أي طبقة وسطى ريعية من جديد). وهي نفس المكونات التي ستنشر الفساد في النظام (الرشوة والمحسوبية) وتستكين لنظام بن علي من أجل البقاء في منطقة الريع الوظيفي السهل، لذلك لم تأت الديمقراطية منها كما راج في تبريرات الإصلاح الهيكلي.
حافظت الطبقة المترقية عبر التعليم أكثر من أي سبب اقتصادي آخر على مصالحها القطاعية، فلم تحدث تنمية اقتصادية واجتماعية بل إن التفويت في المؤسسات العمومية باسم إصلاح هيكلي قلص موارد الدولة فتراجعت الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والبنية التحتية، فظهرت للعيان طبقة المتروكين على الهامش الاقتصادي والاجتماعي وفي نفس الوقت ظلت الطبقة المنعوتة بالوسطى تبرر للنظام كل فعل سياسي معاد للديمقراطية.
سقطت أطروحة ربط بناء الديمقراطية ببناء الطبقة الوسطى، ولذلك جاءت الثورة من خارجها ولذلك أيضا ستخربها حفاظًا على مصالحها القطاعية.
الطبقة الوسطى ضد التقدم
الحالة التونسية التي نراها دومًا قابلة للتعميم عربيًا نقضت أطروحة الإصلاح الهيكلي، وهي تقف في الأعم الأغلب ضد التغيير والأدهى في المشهد التونسي والعربي أن قيادة الطبقة في القطاعات المختلفة يقودها يسار يزعم التقدمية.
لقد مكنت مرحلة بن علي اليسار التونسي من مفاصل الفعل الثقافي والاجتماعي والفكري، فاليسار في النقابات والجامعة وفي مواقع القرار الثقافي والمعرفي، وبحسب الخطاب المعلن فإن اليسار يقود التقدم، إذ يحتكر لنفسه صفة التقدمية في مقابل التيارات الدينية الموسومة بالرجعية.
لكن على الأرض وجدنا اليسار يخرب الثورة بمطلبية الطبقة الوسطى من أجل الحفاظ على مواقعه التي هددها المهمشون القادمون من الأطراف بخطاب مختلف خارج التصنيفات إلى تقدمية ورجعية وبمطالب مختلفة غير قطاعية بل تنموية، وهؤلاء المهمشون هم الذين فرضوا بتحركاتهم في الجهات المهمشة مبدأ الميز الإيجابي في الدستور وهم الذين فرضوا ثقافة جديدة بلغة الهامش (موسيقى الراب الشعبية المنفلتة عن كل بروتوكول ثقافي برجوازي).
وقع الإسلاميون القادمون من الهامش السياسي والاجتماعي في الفخ الثقافي والسياسي لليسار، فتبنوا أطروحة التغيير السياسي الفوقي وتخلوا عن الهامش الذي هو حاضنتهم الأولى، لذلك خاصموا الحكومة وأدوات السيستام وأعادوا إنتاج نفس الخطاب وخططوا لنفس التموقعات السياسية.
الهامش الاجتماعي يتقدم رغم ذلك على حساب الطبقة الوسطى، لذلك صوت في 2019 بحجم كبير لصالح الخطاب الشعبوي (حزب قلب تونس) الذي حارب خلف خطوط الطبقة الوسطى، فوضع عقدة في منشار التقدميين القدامى والجدد. من هنا نفهم أزمة تشكيل الحكومة الحاليّة، حيث يجري صراع على توزيع مناصب ومنافع بين مكونات الطبقة إياها، مثلما نفهم القطيعة العميقة بين الثقافة التي تروجها أدوات السيستام الموروثة التي لم يمسها أي تغيير (كان وزراء الثقافة بعد الثورة من رجالات بن علي باستثناء وحيد ضربه مثقفو اليسار بالبيض) وثقافة الهامش التي تعبر عن نفسها في مدارج الكرة والشارع، مستفيدة رغم قلة الإمكانيات من أدوات التواصل الحديثة التي لم يفلح السيستام في احتكارها.
الاستثمار في الحرية
الهامش يحاصر الطبقة الوسطى والطبقات البرجوازية مستفيدًا من هامش الحريات الكبير الذي لم يعد يمكن التراجع عنه، فيما تحتمي الطبقات المرفهة بالسيستام، محاولة قطع الطريق على إعادة بناء نظام اجتماعي وسياسي عادل يعطي فرصًا للجميع.
فضّل كثير من المهمشين الانتحار بالهجرة السرية ولكن الأكثرية يرابطون في الهامش فارضين خطابًا مختلفًا ويهددون بفرض خياراتهم، ويعتبر التصويت لقيس سعيد (رئيس من الهامش) خطوة كبيرة نحو بناء نظام جديد يسقط خطاب التغيير الفوقي بواسطة النص القانوني وهي ألاعيب قانونية يتقنها المثقفون أو النخبة المحترفة في التشريع.
لاحقت الطبقة الوسطى الشارع الهامشي في انتخابات 2019 محاولة قرصنة الطموح العميق للتغيير، هذه الملاحقة تكشف أن الأمر يفلت بالتدريج من بين أيديها (هذا هو الفرق الحقيقي بين الباجي قائد السبسي رئيس البرجوازية وقيس سعيد رئيس الهامش).
الملاحقة ومحاولة الاستباق بتحريف المطالب الشعبية إلى حلول قانونية لأزمات هيكلية تكشف فقرًا فكريًا وعجزًا في الخيال السياسي وهي ميزات ثابتة لتفكير النخب المرعوبة من التغيير، وهذا جوهر الأزمة القائمة الآن في تشكيل الحكومة. نكتب هذا ونحن نتابع معركة غريبة بين النخب، ففي الوقت الذي يعيش فلاح الهامش أزمة في بيع منتجاته في سوق محلية محدودة يعرض الرئيس التركي صفقة اقتناء الزيت التونسي الفائض على قدرة المستهلك المحلي فيستعيد مثقفون حربًا قديمة مما درجوا عليه وعاشوا منه بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر (حزب النهضة وبقية مكونات المشهد النخبوي المعادي لهم).
معركة مفوتة تكشف تخلف الخائضين فيها وتكشف أكثر مجال الحركة الفكرية والسياسية التي لم يمكن لهم الخروج منها منذ قرن تقريبًا، فأعادوا إنتاجها باستمرار بعيدًا عن اهتمامات الهامش وحاجته إلى التغيير.
إنها قطيعة بين تغيير زاحف من الهامش متسلحًا بالحرية والنخب المتعلمة عماد طبقة وسطى صنعها ريع الدولة ولم تصنعها المبادرة الخاصة. قطيعة ستتطور في ظل الحريات إلى قلب الطاولة ولو بعد حين. وسنعود في مقال ثانٍ لتحليل قنبلة ثقافية ألقاها جمهور النادي الإفريقي في مدارج الملاعب لنكشف أسلوب قيادة المجتمع الجديد بواسطة الحرية وضد النخب المحترفة في خياطة التشريعات على مقاس مصالحها الفئوية.