ما تبقى لي من درس الماركسية أن الترقي الاجتماعي أو إعادة التراتب يمر عبر العمل والاستثمار. فالعمل هو الذي صنع الطبقة البرجوازية التي قادت عمليات التغيير في المجتمع الأوربي الغربي طيلة قرون النهضة، وهي صانعة الثورة الصناعية والثقافية التي اتبعتها. لا يبدو أن هذا الدرس قد شمل أشكالا مختلفة من الترقي الاجتماعي تتخذ من السياسة ذريعة وسببا للمكسب المادي المباشر، بما يؤهل صاحبها لاحتلال موقع في الطبقات العليا أو المرفهة.
يوجد حديث ماركسي عليه دليل من وقائع كثيرة؛ عن طبيعة تفكير الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغرى أو أصحاب الياقات البيضاء (تختلط هذا المفاهيم الثلاث في الكتابات الماركسية عامة)، وسبل التسلق الاجتماعي دون إضافة من عمل وإنتاج. سيكون هناك حديث لاحق بخلفية ماركسية عن رأس المال الرمزي، وكيفية توظيفه في الترقي الاجتماعي وحيازة المكانة الاعتبارية ذات المردود المادي والرمزي. سنحتاج هذه الخلفية لقراءة مسارات السياسيين الجدد في تونس، ونعني بهم الإسلاميين.
الإسلاميون آخر الواصلين على درب الطبقة الوسطى
أسميهم السياسيين الجدد، فهم آخر الواصلين إلى المشهد بعد طول مطاردة، ولا أراهم يقدمون بدعة في المسارات أو يشذون عمن سبقهم، فقد فتحت لهم نخب اليسار الطريق.. بدأ اليسار من الموقع الاجتماعي الأبعد عن "التبرجز" وتبنوا الخطاب الاجتماعي الثوري (الثورة الاجتماعية)، ثم بدأت عمليات تخفيض السقوف، حتى انتهى اليسار جزءا من الطبقة الحاكمة، يغنم مغانمها ويبرر لها، فتعطيه مساحات فعل لتزيين الصورة الخارجية (اليسار الاجتماعي)، لكنها تلزمه موقفا غير اجتماعي. اقتضى ذلك عقدا من الزمن ثم سلُس القياد.
نكتب غالبا أن السلطة تستوعب (تدجن) معارضيها، ونزايد مرات بأن تلك تسمى خيانة، ونبالغ فنجعلها خيانة طبقية للمفقرين الذين خرجت النخب من بين ظهرانيهم ثم تخلت عنهم. ولكن في هذا تبرير وتغطية لرغبة النخب في الاندماج في مسارات الغنيمة، فكأن السلطة هي المذنبة باغتصابها لإرادة الثوريين أبناء الشعب الأبرياء والمدافعين عن قوته. (شيء يشبه حديث المغتصبة التي أسلست قيادها ثم تظاهرت بالعفة).
الإسلاميون التونسيون، وأخص حزب النهضة، يسيرون في طريق اليسار التونسي من حيث الاستعدادات للاندماج والتخلي، مع إضافة مهمة هي أن خطاب الهوية سيكون الوسيلة/ المطية، وهو أمر أخطر من خطاب الثورة الاجتماعية الذي لا يسند نفسه بمرجعية غيبية أخلاقية أو معيار ما فوق اجتماعي.
مسالك التخلي وتبريراتها
نتتبع هنا فكرتين؛ واحدة في الخطاب والأخرى في الممارسة، لتبيان الاستعدادات الحثيثة للتحول من مسلم نصير للفقراء والمساكين بالقرآن والسنة، إلى مبرر لسلطة ليبرالية تستهين بالأضعف من أجل الأقوى باسم الواقعية السياسية.
في الجانب الفكري والتنظير، يتم تخيّر القضايا الجدلية التي تؤكد الإخلاص للمبادئ المؤسسة، مثل مشاغل الإصلاح الديني، مع طرح قضايا عقدية وإيمانية، مثل التفسير العلمي للقرآن، وهو مبحث مزدهر رغم أنه يكرر نصا واحدا منذ أول الثمانينيات. لكن تغيب مسائل ذات عمق مؤسس، كتفسير التوافقات العملية بين قيادة الدولة بتشريعات وضعية (مخالفة للتعاليم الدينية)، وبين الحديث عن إسلام يمتلك كل الحلول لكل المشاكل.
في الجانب الإجرائي، يميل الاتجاه إلى التوافق مع مكونات سياسية محافظة أو راديكالية، بشرط إعلان نوايا ديمقراطية بخطاب غير استئصالي، ثم التنازل لها على مربعات السلطة باسم الحفاظ على الصالح العام أو الحفاظ على الدولة والمؤسسات، دون أدنى اعتراض مبدئي على أن المؤسسات قابلة للتجديد وليس فقط للحفظ. ينتهي الإسلاميون (أو انتهوا في التجربة التونسية) هنا إلى مدافعين عن مؤسسات النظام القديم وممارساته السياسية وعلاقاته الدبلوماسية التي قامت عليها الثورة كلها.
إن تبرير الحفاظ على الدولة ومؤسساتها يخفي في حقيقته رغبة في الحفاظ على طريق الغنيمة سالكة. فالثورة تخرب كل شيء، بما في ذلك احتمالات القرب من السلطة ونيل خلعها. هل جرت المنظومة الإسلاميين إلى فخ التطبيع معها؟ أم كانت لديهم استعدادات أولية للوقوع في الفخ؟
أميل إلى التفسير الثاني.. لقد ركبوا قطار اليسار الثوري فانتهوا إلى حيث يقبع اليسار الثوري الآن. لا أتحدث عن فكرة مبنية نظريا وتحولت إلى ممارسة سياسية لتحقيق أهداف جماعية (للحزب كافة وللبلاد عامة)، بل عن ممارسة قيادات تتحول بالتدريج من وضع اجتماعي فقير إلى طبقة وسطى، وهذه القيادات تعمل على الجهتين: (الأولى) خلق المسائل الفكرية الجانبية؛ لتهميش النقاش عن الأصل الفكري لحركات الإسلام الحديثة ومشاريعها التي زعمت تنفيذها إذا وصلت إلى السلطة، و(الثانية) تبرير العلاقة بالمنظومة السلطوية القائمة وتبرير عدم مجادلتها بحجمها وحجم فسادها، مع الاستعانة أحيانا بجرعات من التخويف المنهجي للأنصار من عاصفة استئصال يمكن أن تهب في أية لحظة.
السلطة مغرية أكثر من الجنة
جنة الشيوعيين، كما جنة الله، ليست على هوى القيادات.. توجد جنة على الأرض، والطريق إليها هو موقع في السلطة، والسلطة تحب المخلصين الذين يشكلون حزاما من حولها مقابل مكرماتها. لا يختلف الأمر عند اليسار عن لحظة الخروج من لينين على ستالين، فحيث يذهب الزعيم توجد منفعة مباشرة. ولا يختلف الأمر عند الإسلاميين عن لحظة معاوية صاحب المائدة الدسمة.
هكذا تتحول الأفكار المؤسسة (المبادئ النضالية) إلى عائق في الطريق إلى الرقي الشخصي، فيتم تخفيف وزنها والتحايل الفقهي عليها لتتحول إلى ستار (أيديولوجي) لتغطية التحول من طبقة إلى أخرى بوسائل الحزب نفسها. طبعا هذا لا يتم بين ليلة وضحاها، بل يستهلك وقتا، ويحتاج إلى أيديولوجيين يصنعون حوله رأيا عاما. فقضية المرأة (على طريقة اليسار) تبقي لليسار وجهه الاجتماعي الثوري، إذا أخذنا في الاعتبار الجندرية المتطرفة. ومثلها قضية تطوير الخطاب الديني عند الإسلاميين.
إلى أي حد يمكن أن نعمم هذا التوجه داخل الإسلاميين؟ وهل كلهم ينافقون اللحظة من أجل مغانم فردية؟ نقيس مرة أخرى على اليسار، مع حفظ الفارق العددي.. كم بقي من اليسار التونسي مخلصا لقضايا اليسار التي أسس عليها في السبعينيات؟
إن الفارق هنا زمني لا مبدئي.. لقد وصل السياسيون الجدد متأخرين بثلاثين سنة، بفعل اليسار نفسه الذي أحسن الدفاع عن المنظومة التي أجزلت له العطاء، وكانت تلك هي السبيل الوحيدة المتاحة لديه بعد أن فشل في قلب السلطة بالثورية السبعينية.
إننا نرى اصطفافا من قوة جديدة إلى جانب المنظومة باسم الديمقراطية التي لم تفقد أحدا ممن اصطف إلى جانبها، فهي كريمة ما دام الإنفاق من جيب الدولة (القطاع العام). وسيتأكد توجه حماية السلطة والاحتماء بالسلطة من الشارع بعد انتخابات 2019.
لقد مضى الزمن الذي انتظر فيه الفقراء والمهمشون أن يجدوا الإسلاميين إلى جانبهم في معارك تصفية المنظومة الفاسدة، وتأسيس ديمقراطية جديدة على دستور جديد. لقد فهم الإسلاميون درس اليسار، فساروا على خطاه، فلا أحد يحارب فعلا إلى جانب الفقراء، بما في ذلك فقراء الحزب، حتى لينين.