يطيب لنا نقد النخبة العربية ومواقفها من الثورة. وهو نقد مطلوب الآن وهنا. فالنخب العربية لم تكن في مستوى طموح الثورة الشعبية في بلدانها المختلفة. وقد اصطف الكثير من رموزها وراء المنظومات القديمة ودافع عنها بباطل وبقليل من الحق حتى عادت لتمسك بالسلطة وتعادى شعبها كما فعلت طيلة عقود الاستقلال الطويلة. ويمكن التدليل على ذلك بأمثلة كثيرة من مواقف الشخصيات الاعتبارية المصنفة في النخبة ومن الأحزاب النخبوية خاصة ذات المنشأ والتكوين الأيديولوجي. لكن ماذا بعد نقد النخبة؟ هل ننتظر فناء هذه النخبة ونشوء أخرى لتقود المشهد؟ أم نثق في النخبة الموجودة وهي تواصل تشويه وعي الناشئة بمشاريعها المستنفذة العاجزة؟
تيه بني إسرائيل؟
يطيب لشباب الحركات الإسلامية الاستشهاد بمثال التيه الذي عاشه بنو إسرائيل بعد النجاة من فرعون. فقد عبدوا العجل فعوقبوا بالتيه.فظلوا لا يعرفون مخرجا من صحرائهم.حتى قيض الله لهم حلا سقط فيه الضالون المضلون وعبر الناجون الأطهار(الجيل الجديد) النهر خفافا من الخطيئة ومن المخطئين. ويتخذ الإسلاميون ذلك نبراسا للانتظار الصبور حتى تتآكل النخب التائهة وتولد بعد جيل نخبة لم تعش رذيلة العجل. طبعا مع شحنة مكتومة من انتظار النبي المخلص(المهدي المنتظر)أو القائد الشاب (الملك داوود) وسلاحه الفذ الحديد (القوة والشباب).
نخبة جديدة لدولة جديدة في أرض جديدة. ونهاية مرحلة الشرك والضلال. ولكن يغيب عن هؤلاء أن داوود لم يتخل عن ألواح موسى أي عن المرجعية نفسها التي حكمت على التائهين بالتيه. فقد تم إنقاذ المرجعية المقدسة أي أن النخبة الجديدة لم تتكون من فراغ بل اعتمدت النص الأول. لذلك يعاد طرح السؤال عليهم كيف نصنع نخبة جديدة بنفس المرجعية القديمة؟.
إننا في خطاب الشباب الإسلامي أمام حالة من الهجرة التطهرية من الشرك (الجاهلية) لبناء المدينة الجديدة على قيم جديدة (يثرب المؤاخاة والتآزر وإسناد الفتح ونشر الدعوة). مرجعية نفي الماضي والتبرؤ منه وبناء البدائل بالمؤمنين الجدد. ما مدى واقعية هذا الطرح وفاعليته في بناء النخب الجديدة والدولة الجديدة؟ (كم بقي من سيد قطب في المسكوت عنه من خطاب الشباب الإسلامي القابل بالديمقراطية والتعايش مع التائهين الضالين؟) سؤال يمكن ردمه بخطاب التنمية البشرية الآني لكن لا يمكن له إلا أن يبرز من ثنايا اللاوعي الإسلامي الذي تربي على التطهر والترفع عن موبقات الدنيا الفانية.
هذا عن الفرد الإسلامي وخاصة الجيل الذي عاش عذابات الدولة الوطنية وسجونها وقهرها. فماذا عن بقية شباب التيارات الأيديولوجية الأخرى؟ اليسارية منها والقومية؟ التي أخذت قسطها من العذابات أيضا.
لكل تيار نبيه المعصوم وتيهه ومهديه المنتظر.
لا تختلف بقية التيارات الأيديولوجية العربية اليسارية منها والقومية عن نمط تفكير التيارات الإسلامية إلا في التسمية. أما الخريطة الفكرية وخارطة طريق الفعل السياسي فواحدة. كلهم يعلن له كتابا مقدسا وإن جعل هؤلاء له أصلا دنيويا لكنه عندما يتعلق الأمر بنقد المرجعية (الكتاب وكاتبه) يصير الفرد منهم أصوليا أشد شراسة في الدفاع عن نصه من المؤمن بالكتاب السماوي . صورة الزعماء مقدسة وموضوعة فوق النقد. فصدام حسين لم يخطئ أبدا وآل الأسد لم يخونوا بل هم الممانعة ذاتها. وعبد الناصر لا يدخل في صنف الأرضيين القادرين على ارتكاب الأخطاء. وكذا كتبهم وآراءهم وسياساتهم ولو كانت نتائجها ضياع فلسطين وتخلف بلدانهم وتبديد ثرواتها.ولعل من أشد صور الولاء الأعمى رثاثة وبؤسا أن كثيرا من هؤلاء لا يزال يرى في الكتاب الأخضر وكاتبه نظرية ثورية كتبها مفكر طٌلْعَة لم يحن زمنه بعد.
وهؤلاء أيضا ينتظرون نهاية التيه وإن لم يرجعوا فيه إلى النص القرآني. ونهاية التيه ستكون على يد زعيم مخلص (قادم من رحم الغيب الشعبي) وتكون على يديه نهاية جيل جاهل ( رجعي) حيث سيتركونه وراءهم ويعبرون النهر إلى أرض معاد ديمقراطي تقدمي طاهر ليس فيه بالخصوص فكر رجعي ديني أصولي متخلف.
منظومة واحدة تنتج فشلها وفناءها.
الجميع في تقديري يفكر حسب نفس الترسيمة الأيديولوجية والفكرية التوراتية. العقاب الإلهي بالتيه(الدولة التابعة) والإيمان بالخلاص(الوحي أو الإيديولوجيا) ثم المعاد والانتصار(الخلاص من القديم الجاهلي أو الرجعي) بعد التطهر(عبور إلى الديمقراطية/ أرض المعاد). لكن لا يبدو أن أيا من هؤلاء مستعد لمراجعة هذه الترسيمة البائدة والتفكير في أن التيه جماعي وأن الشريك أو الشركاء بدورهم يعيشون نفس الوضع وأن الخلاص جماعي.لأن هناك في هذه الترسيمة خطأ مميت هو جهل أو تجاهل طبيعة المنظومة القديمة صانعة العجل وعابدته.
فسبب التيه وبعد أن مَحَّصِت الثورة الصفوف هو أن(صناع العجل) هم المنظومات القديمة.أي الأنظمة التي قامت ضدها الثورة (بشكلها العسكري المفضوح (ليبيا وسوريا) أو بشكلها المدني المزيف (مصر تونس واليمن) وكل من يواليها هو إما تائه عن نفسه مخطئ في مرجعياته أو متواطئ بصفته مستفيدا من تلك المنظومات. لذلك فهذه المجموعات تعتبر أجزاء من عبدة العجل لا من أسباب تحطيمه. وعليها للنجاة أن تقف أمام وعيها(مراياها) لحظات طويلة لتقول لنفسها أنها من أسباب التيه ومن نتائجه المتكررة عبر الأجيال وليست من أسباب نهايته.
كيف النجاة من التيه؟
ما الذي يجعل النجاة من التيه عملا لا يتم على أساس انتظار نبي أو معجزة أو إعادة تأويل النص المرجعي مهما كانت قداسته. انه العمل على أساس إعادة ترتيب الصفوف داخل التيه. لكسر العجل وعبدته. ليست هناك أرض معاد ولا هجرة إلى يثرب أخرى غير الأوطان التي ولد عليها هؤلاء وعاشوا في أكنافها. السؤال هو سؤال الخروج من التيه لا في المكان ولكن من الفكرة المؤسسة(من الكتاب المقدس). النجاة هي نقد الأصولية الفكرية المهيمنة على الجميع وتجاوزها ليس بانتظار وحي أو مخلص بل بصناعة جيل آخر خارج التيه. لكن كيف لهذا الجيل التائه أن يصنع خليفته الراشد وبأية توراة جديدة؟ هنا معجزة الثورة فإما أن تصنع قيادتها (داوودها المسلح) أو أن تزيد فصلا آخر من التيه.
إني أطرح أسئلة وليست لدي إجابات جاهزة. وأتعزَّى أن أول العلاج معرفة الداء وأضع النخب العربية التي قولبت الأيديولوجية وعيها وكلسته في أسباب المرض وليست في أسباب العلاج. أي أن ثورة الشباب يجب أن تمتد بالنقد إلى هؤلاء فتعتبرهم جزءا من المنظومات القديمة (العجل) الآيلة للسقوط. من هذا الشباب الجديد؟ من أين جاء وأين تربى وعلى ماذا؟
أن ملامحه ستتضح في الطريق بعد أن سقطت أقنعة الجيل الذي علمه الدوران في الصحراء. عليه فقط أن يعي أن العبور إلى المستقبل يكون على رقاب هؤلاء لا معهم. وفي أفضل الحالات يمكن الرفق بهم إلى حدود النهر ومنعهم من تدنيس الأرض الجديدة (الدولة الجديدة على الأرض نفسها لا خارجها فلا هجرة من الوطن إلا إليه) فموسى الذي قرأت ألواحه لاحقا كنصوص دنيوية لبناء دولة أرضية متغلبة… لم يعبر النهر.