منحت الثورتان التونسية والمصرية فرصة عظيمة للمعارضات القديمة لحوز السلطة والحكم، على خلاف الثورتين السورية والليبية اللتين جنحتا إلى العنف المسلح، ولكل قُطر منهما أسبابه المحلية التي يطول شرحها هنا. لكن تبين أن الفوز الانتخابي لا يؤدي بالضرورة إلى القدرة على البقاء في السلطة والنجاح في تدبير أمور الناس.
لم يكشف الصندوق الانتخابي قدرة المنظومات على المناورة والبقاء فحسب، بل فضح قبل ذلك المعارضات القديمة التي سارعت إلى السلطة دون خطط نجاح تضمن البقاء. هناك خطاب تبريري قوي يصدر خاصة عن الإسلاميين (بحكم تصدرهم للحكم مباشرة بعد الثورة وتنظيم أول الانتخابات الديمقراطية) لتفسير الفشل والتراجع أمام المنظومات، لكن التبرير لم يصل إلى درجة نقد الذات. لقد كان المعارضون القدامى فقراء في تدبير السياسة في الداخل وفي الخارج، وتبين أنهم زمن المعارضة لم يبذلوا الجهد الكافي لفهم حاجيات شعوبهم، وربما لم يتخيلوا أبدا أن تتاح لهم فرصة الحكم فتمتعوا بالمزايدة في المعارضة، فثمن المزايدة أقل كلفة من معاناة الحكم.
طبيعة عمل المعارضة القديم
يمكن الانطلاق من الحالة التونسية التي عايشناها بدقة ونعمم على الحالات العربية بدرجات. كان همّ المعارضين القدامى منصبّا على تتبع أخطاء رأس السلطة (الرئيس أولا وحكوماته ثانيا)، وذلك منذ انطلاق عمل المعارضة. وكانت الصحف القليلة التي يسمح لها في أجواء إعدام الحريات بالصدور تتناول أولا ما يجري في الدوائر الضيقة للسلطة، بما في ذلك الحالة الصحية للرئيس. وكان هذا عملا مشروعا، لكنه كان العمل الوحيد الذي يحفز به الأنصار القلة، وكان من نتائجه المهمة والتي تبينت أهميتها بعد الثورة خاصة أن هذه المعارضات نسيت شعوبها ومتطلباتها.
تخلل خطاب المعارضات القديم حديث عام (لا يمكن إنكاره) عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعن السيادة الوطنية، ولكنه كان حديثا أقرب إلى الشعارات البراقة الفاقدة للمضامين العملية؛ مثله مثل تحرير فلسطين بمظاهرة يوم الأرض أو تذكر مذبحة دير ياسين أو صبرا وشاتيلا.
تعلل الإسلاميون دوما بواقع المطاردة المستمرة، فقد قضى الكثير منهم في السجون أكثر مما قضى في الحرية، وهذا أيضا لا يمكن إنكاره، لكن الجهد الذي صرفه الإسلاميون في دعوة الناس إلى التوبة لم يوازه وقت مماثل لإرشادهم إلى حقوقهم الدنيوية. كان الإسلاميون دوما يرددون أن مهمتهم بناء الإنسان الصالح (بالوعظ الديني)، وليس بناء الدول (بفهم آليات الحكم).
لما بينت لهم تجربة السلطة أن بناء الدول الصالحة بالقوانين الدنيوية الفعالة أسبق على بناء الإنسان المؤمن الذي سيعيش في ظلها، كان الوقت قد فات ولم تنفعهم صلوات الجماعة في مكاتب الرئاسة لا في تونس ولا في مصر. كان الناس ينتظرون تغيير واقعهم المادي وتحريرهم من ظلم الأنظمة وفسادها، ولم يتبين للإسلاميين علم بذلك فباع الكثير منهم حديث التقوى لمواجهة الجوع.
وإذا كان الإسلاميون قد وجودا حديثا غير اقتصادي وغير اجتماعي (فضلا عن التبرير بالمطاردة) فإن بقية أطياف المعارضة كان وضعها أسوأ منهم، فقد كان أغلبهم زعامات تنتظر فقط الحلول محل الرئيس السابق والجلوس على كرسيه دون أدنى علاقة بالناس وبهمومهم. كانت ذواتهم هي شاغلهم وكانت الثورة عندهم فرصة لم يصنعوها، لكنها جاءتهم على طبق ولذلك لم ينتبهوا لخديعة الصندوق وسيكون هذا سببا لحرب استئصالية مع الإسلاميين الذي فازوا بالعدد لا بالفكرة، فقد كان مطلوبا من الإسلاميين أن يوصلوا هؤلاء الزعماء إلى الكرسي والانسحاب إلى بيوتهم.
كانت المنظومات تعرف معارضاتها القديمة
سبقت الإشارة إلى أن الصندوق الانتخابي كان دسما دس فيه سم، وكانت أول مناورات البقاء والعودة للسلطة لمنظومتي الحكم الساقطتين بالثورة. فقد كانت المنظومات تعرف قدرات من كان يعارضها وخاصة طبيعة اهتماماتها الفردانية، كما أنها لم تفقد أدوات التحكم بفعل سرعة الثورة وجنوحها إلى السلمية ووقوعها المبكر في فخاخ صناديق اقتراع قدت على عجل خبيث.
عجز كل أشكال المعارضات ومنها الإسلاميين (عند الوصول إلى السلطة) على فهم هذه المنظومات والتعامل معها بذكاء صنعته المنظومات نفسها أيام عزها. لقد طاردت كل فكرة وكل تنظيم وكل نفس حرية، ولم تسمح لأحد بالتفكير المتأني في البدائل، لكن كل ذلك لا يصلح مبررا لعدم فهم هذه المعارضات لطبيعة الحكم وضروراتها، وخاصة حاجة الناس الذين قاموا بالثورة.
جهل هذه المعارضات وعجزها عن ابتكار حلول وبناء تصورات مختلفة عن طبيعة عمل المنظومات أوقعها بسرعة غير منتظرة في إعادة إنتاج سلوك المنظومات وخيارات الحكم التي رسختها، فوجد الناس أنفسهم تحت نفس السلطة، وكل ما في الأمر تغيير طفيف في الوجوه، ومن هنا عادت المنظومات للحكم مطمئنة إلى سلامة مكاسبها.
غني عن القول هنا أن شبكة الولاءات والمصالح الخارجية الاقتصادية منها، خاصة التي بنتها مع الخارج، كانت عنصر قوة بيد المنظومات لم يسهل للمعارضين القدامى (أو الحكام الجدد) بناء شبكات مماثلة بسرعة تضاهيها. وقد سبق القول أن الخارج لم يكشف يوما نية حقيقة في إسناد ديمقراطية ناشئة في المنطقة العربية، لذلك رأى في وصول المعارضين القدامى بخطابهم (السيادي والتحرري السابق) خطرا يتهدد عملاءه ووكلاءه في الداخل فحافظ على الموجود ولم يصبر على كلفة التغيير الديمقراطي، ولكن هذا أيضا أمر منتظر لم تفكر فيه المعارضات السابقة لانشغالها -كما أسلفنا- بتتبع الحالة الصحية للرئيس(الرؤساء)، فلم نعرف رئيسا عربيا بصحة جيدة منذ وعينا.
ماذا كان مطلوبا من المعارضة القديمة؟
السؤال الذي يجب أن يطرح للمستقبل هو التالي: ما هو المطلوب من المعارضين القدامى الذي عادوا إلى المعارضة من جديد؟ فمرحلة الثورة انقضت وأغلقت أقواس التغيير (وتونس على خطى مصر هذه المرة في طريق إغلاق قوس الحريات).
لقد تبينت مطالب الشعوب بشكل لا يمكن تجاهله.. الشعوب المطعونة في وعيها والمحتقرة من طرف النخب كشفت ذكاء خاصا يمكن الانطلاق منه؛ لا لمجاملته بغية الفوز في صندوق انتخابي جديد (بكرتونة المساعدات الغذائية) بلا برنامج، بل لوضع برنامج مقنع يدفع الناس إلى التبكير إلى الصندوق ولو بعد دهر طويل (أو ثورة أخرى من يدري). وفي الحد الأدنى قلب خطاب المنظومات وكشف فقرها البرامجي الذي غطته دوما بالقوة الغاشمة.
الذهاب إلى المساجد والتعبد لا يمر عبر نصائح الإسلاميين وخطابهم الدعوي، والذين لم يذهبوا إلى أي مسجد قد لا يفعلون ذلك طيلة حياتهم (عبر تاريخ الإسلام الطويل كان الناس يؤدون الفرائض عند تحسسهم اقتراب الأجل). ولدينا يقين بأنه لو راجع الإسلاميون هذه الرؤية لفقدوا أسباب وجودهم.
والناس كرهوا الزعامات والأسماء الرنانة والمنفوخة بوسائل إعلام بعضها بمال مشبوه. تجربة السنوات الاثنتي عشرة كشفت أن مسؤولا ذكيا يحسن تفعيل إدارته أكثر فائدة للناس من زعيم يحتل منابر الإعلام ليروج لشخصه.
كثير من الناس (ربما أغلبية لم يتيسر سبرها) عرفت بالتجربة معنى التحرر الاقتصادي وسبل النجاة من الهيمنة.. يكفي سماع حديث تجار الشنطة عبر إسطنبول أو مدن الصين، ويكفي سماع حديث ميكانيكي عن فضائل السيارة الآسيوية على السيارة الفرنسية. وهذا وعي عملي غير نظري ولا خطابي ولا أيديولوجي؛ لم تلتقطه النخب ولم تبن عليه وواصلت تفوقها الأخرق.
من هنا البدايات الجديدة كما نظن إن فهمناها من التجربة، وقد وجدنا في تراثنا أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولا نظن أن السلطان هنا هو سلطان العصا والقمع، ولكن سلطان التدبير الاقتصادي الحكيم. فالناس يحبون أن يناموا ببطون ملأى (ولو بقلب غير خاشع) وهم يعرفون أن للنخب بطونا أيضا ويحبون النوم بعد الشبع.
على من أراد الحكم والبقاء فيه أن يدخل على الناس من هذا الباب قبل أن يتقدم إلى الصندوق الانتخابي. المنظومات فهمت ذلك وحكمت به، وعادت إلى السلطة في بلدان الثورة.