أناقش في هذه الورقة احتمالا مستحيلا لكنه قد ينتج معنى. أن يحل حزب "النهضة" التونسي نفسه بنفسه ويعلن التوقف التلقائي عن المشاركة في السياسة الجارية ويختفي من المشهد إلى أجل غير محدد؟
أقول إن هذا احتمال مستحيل لا لأن ممارسة الاهتمام بالشأن العام حق يقره الدستور والعرف فحسب. بل إن مكونات الحزب تعتبر نفسها صاحبة حق لا يمكن إلغاؤه تحت أية ذريعة سياسية. وأنا لا أناقش هنا مبدئية الحق في المشاركة، بل أبني فرضيات على اختفاء "النهضة" تلقائيا. وأتخيل مصير من بنى وجوده وفعله على مطاردة التيار الإسلامي عامة و"النهضة" خاصة ماذا يبقى له ليفعله في صورة اختفاء العدو من المعركة؟
تذكير ببعض التاريخ
أتكلم من موقع الشاهد على أكثر من أربعين سنة من مطاردة التيار الإسلامي في كل مكان ظهر فيه بدءا من الجامعة إلى الساحة السياسية. لقد كان الإسلاميون يفعلون بينما تقوم تيارات سياسية وشخصيات على إفشال ما يفعلون دون أن ينتجوا أفكارا بديلة وأطروحات سياسية يمكن تنفيذها بقطع النظر عن وجود مكون إسلامي في الساحة.
نصف قرن تقريبا واليسار التونسي لا يعلن مهمة أو يقوم بتحرك إلا لقطع الطريق على الإسلاميين. لم يعارض السلطة بجدية، ولكنه ساهم في ذبح الإسلاميين مستعينا بأجهزة الدولة التي تسرب إليها بذكاء خارق.
أمسك اليسار بالنقابات ومنع الإسلاميين من دخولها بمخالفة كل التراتيب الداخلية للمنظمة النقابية. وعلى خطى اليسار سار التيار القومي بعد أن فقد الأمل من الانقلابات العسكرية زمن بن علي. في الوقت نفسه كان التجمعيون ينهبون خيرات البلد.
سيطر اليسار على الجامعة عبر لجان الانتداب وتحالف مع التجمعيين لمنع أي إسلامي من دخول الجامعة مهما كانت طبيعة المادة الدراسية أو التخصص أو الموقع. ولا يزال يمارس السحل الأكاديمي بعد 2011.
غني عن القول هنا أن ربع قرن تحت حكم بن علي كان مجرد الذهاب إلى المساجد تهمة تنهي حياة الإنسان وتحوله إلى فأر سجون. وكان الوشاة يشتغلون عند ضابط اليسار المالكين الحصريين لوزارة الداخلية. وكان تملكهم لها مقابل غض الطرف عن فساد بن علي وأصهاره. ومقابل تخفيض أسعار الخمور في نوادي الصحافة والكتاب وغيرها من المواقع التي يرودها اليسار التونسي.
لم تكن ليسار الخمور المدعومة من مهمة إلا مطاردة الإسلاميين لصالح النظام القائم وقد واصلوا الدور بعد الثورة لكن لغير بن علي، بل للجهة التي مكنتهم من جائزة نوبل وجعلت النقابة أداة تخريب للثورة التي منحت الإسلاميين حقا في الوجود والمشاركة. تلك الجهة معروفة وهي من اغتالت وخربت ولا تزال تصنع السياسات في تونس من وراء ستار اليسار بكل فصائله إلا أفرادا يعيشون خارج التنظيمات ويفكرون بشكل ديمقراطي. واليسار يعتبرهم خوانجية مرتدين. ماذا سيفعل هذا اليسار لو قام صباحا ولم يجد النهضة؟
فرضية غياب النهضة وما ينجر عنها؟
هناك أولا جيش من الإعلاميين سيجدون أنفسهم عاطلين عن العمل. سيطردهم مشغلوهم لأن مهمتهم انتهت ولن يجدوا وسيلة إعلامية تقبل ما يقولون أو يكتبون. هذا الجيش صنع خصيصا لمواجهة العدو النهضوي حتى لما غيبته السجون والمنافي. فماذا قد يفعل في غيابه؟
هناك نقابات ستفقد سبب الإضرابات ضد حكومات فيها مكون إسلامي وتعود سيرتها زمن بن علي حين كانت القيادات النقابية تتلقى الرشوة لتمنع التحركات من أجل السلم الاجتماعية وترفع التحديات مع لصوص المال العام. وتسقط كل مطلب اجتماعي مستحق على الدولة.
هناك أكاديمية محترفة في كتابة أطروحات وروايات وشعر تدور حول إنقاذ التقدمية من الرجعية الزاحفة. ولم نعرف لها إنتاجا غير ذلك بصيغ تختلف وتتعدد شكلا لكن الموضوع واحد. صورة لتونس ليس فيها خوانجية.
لقد تحولت مطاردة الإسلاميين إلى تخصص أكاديمي ومحور نضال نقابي وشغل إعلامي يحترف الكذب والتلفيق ويخرب عقول الناس، وقد انكشفت بعد الثورة كل الوجوه وكل الأدوار، بل استقوت بوجود الإسلاميين أنفسهم في السلطة (بما قد يعنيه ذلك من ازدياد قوتهم) وشملت نيرانها كل من اقترب منهم أو تحالف أو حتى رفض المشاركة في سحلهم. ومثال ذلك ما تعرض له زعيم حزب العمال اليساري عندما شارك في منتدى 18 أكتوبر 2005 وما تعرض له المرزوقي (الرئيس الأسبق) لما قبل التحالف مع "النهضة" بعد الثورة ويمكن أن نعدد الأمثلة ولا نكل.
حزب "النهضة" لن يفكر في هذه الفرضية
المشاركة حق والنهضويون يدافعون عن حق وجود وسيرون ورقتي هذه نوعا من التخريف السياسي. لكن النهضويين شهدوا مثلما ما شهدت أن حزب التجمع بعد حله بحكم القضاء لم يندثر. بل شوهدت قيادته المحلية في المقاهي ينسقون مواقفهم السياسية والانتخابية ويربحون.
لقد وضعوا قوتهم برسائل هاتفية مع الهاشمي الحامدي ومكنوه من كتلة نيابية بثلاثين نائبا تحت مسمى العريضة الشعبية في 2011 وتسربوا إلى بقية الأحزاب ودخلوا البرلمان مع حزب المؤتمر (للرئيس المرزوقي) عدوهم اللدود. ولم يدفعوا كلفة كراء مقر واحد ولا صرفوا أموالا للدعاية الانتخابية. مجرد أرقام هاتفية ورسائل الأس أم أس كانت كافية. ليكونوا دوما جزءا من المشهد وقد أخذوا منه قسطا لم يكن لهم حتى زمن بن علي. فالقسط الأكبر كان للفاسدين المحترفين وليسار الخمور المدعومة.
نصف مليون ناخب نهضوي مسجلين في الشهر العقاري (الدفتر خانة) أين يمكن أن يتلاشوا؟ قبل ذلك هل يحتاجون إلى هيكل حزبي علني يكلفهم أموالا طائلة وحرائق مقرات كلما عن لأحدهم أن يخوض حربا ضدهم؟
إذن لماذا يصرون على البقاء في عين العاصفة؟
إنهم مرعوبون من تهمة السرية. وهو رعب زرعه فيهم اليسار نفسه. لذلك لا يفكرون إلا في أن يكونوا تحت المجهر ليراقبهم خصومهم ويعسر عليهم وصفهم بالتنظيم السري. لكنهم متهمون به بعد رغم كشفهم لكل وجوهم. إنهم دوما في وضعية الضيف البغدادي عند المروزي (والله لو خرجت من جلدك ما عرفتك).
إن فرضيتي هذه لا تدعوهم إلى التحول إلى حزب سري، بل إلى أن لا يكونوا حزبا أبدا وأن يذوبوا في السكان كأنهم لم يكونوا أبدا وأن ينشغلوا بأمور دنياهم مثل عامة الناس ولن يمنعهم أحد من ارتياد المساجد إذا ارتفعت عندهم مؤشرات الإيمان والرغبة في التعبد. لكن أن يكفوا أن يكونوا جزءا من مشهد سياسي مبني منذ نصف قرن على مطاردتهم ولم يخترع لنفسه مهمة أخرى.
أرغب في تخيل جيش تسلح بكل الأسلحة الثقيلة وخرج إلى معركة فلم يجد عدوا يقابله ماذا عليه أن يفعل بكل الأسلحة التي أنفق عمره يجمعها لهذا العدو الذي اختفى؟ إني أراه ينوء بها. وقد يطلق النار على نفسه.
لكن الجانب الخفي الذي يفسد فرضيتي ويجعلها تخاريف أدبية ماذا قد تفعل قيادات حزب أغرمت بصورها في التلفزيونات؟ واستمرأت حديث السياسة وزينتها؟ وطاب لها مغنم السياسة رغم بؤس مواقعها التي تركت لها (لا داعي للتذكير هنا بأنه منذ الثورة وضع عرف خارج كل الأعراف وزراء "النهضة" ممنوعون من وزارات السيادة الأربعة والثقافة والتربية والتعليم العالي والمالية والشؤون الاجتماعية ولو قدر خصومهم لعاملوهم فقط ككتلة نيابية خرساء تصادق على حكومات لا تشارك فيها).
أنا لا أنصح لكني أبني فرضية. إن اختفاء النهضويين من المشهد السياسي سيدمر أعداءهم الذين لم يقبلوا بهم أبدا ورأوا في كل تنازلاتهم ومناورتهم للتعايش المختلف ضمن الديمقراطية نفاقا سياسا.
في عالم التواصل الحديث لم يعد يحتاج أحد مقرا قابلا للحرق. ويمكن الاستفادة من عمل قيس سعيد الذي وصل الرئاسة بقهوة وزجاجة ماء في مقهى ولم تثبت عليه بعد جرائم انتخابية.