نعاين انطلاق معارك التموقع في مرحلة ما بعد الانقلاب، ونعاين علامتَين بارزتَين في هذه المعارك القديمة المتجددة؛ أولًا استعادة النقابة لأسلوبها المعهود منذ الثورة بالضغط بواسطة تعطيل مؤسسات القطاع العام الحيوية، من أجل التموقع وتحصيل مكاسب سياسية غير نقابية، وتشتيت بقية الطيف الديمقراطي المعارض للانقلاب منذ البداية حول من يكون رقم واحد في الساحة والحكم، وهو ما يوحي بعودة إلى الأجواء السياسية التي سبقت الانقلاب، أي الاستقطاب التقليدي، ولا نتبيّن أن الفاعلين السياسيين قد فهموا الدرس واستوعبوا أثر خسران الديمقراطية عليهم وعلى البلد عامة.
موجة إضرابات سياسية أخرى
الذريعة المعلنة لموجة الإضرابات التي انطلقت منذ منتصف مارس/ آذار هي إجبار حكومة الانقلاب على تطبيق اتفاقيات سبق لحكومات سابقة التوقيع عليها، ويبدو الأمر سليمًا من وجهة نظر قانونية باعتبار مبدأ استمرار الدولة (بقطع النظر عن الأسماء في الحكومة).
لكن النقابة تعرف أكثر ممّا تعرف الحكومات أن الاتفاقات السابقة قد أُمضيت تحت التهديد بإيقاف عمل الحكومة والدولة، وكانت إمضاءات تحت الإكراه، والنقابة تعرف أيضًا أن الحكومة الحالية واقفة بالدولة على حافة الإفلاس، وأن خزانتها فارغة، وأن أي أثر مادي لهذه الاتفاقيات سيفاقم العجز.
اللافت في الأمر أن النقابة قد سكتت عن هذه الاتفاقيات ولم تطالب بتفعيلها طيلة الشهور الثمانية الأولى للانقلاب، بل وقفت مع الانقلاب وحكومته حتى تبيّن لها أن الحديث عمّا بعد الانقلاب قد صار حقيقة، وأن "الحقائب"، أعني المكاسب، قد تهيأت للتوزيع بعده.
لذلك عادت تمارس سياسة الابتزاز بواسطة مؤسسات القطاع العام الخاضعة لها، والتي استعملتها دومًا لتعطيل المرافق الحيوية العامة، وحصّلت بها من المكاسب ما لم تحصّله طيلة تاريخ الدولة الحديثة.
لقد حصل الانقلاب على الهدنة الاجتماعية التي طالما طالبت بها الحكومات السابقة ولم تنلها، ونالها الانقلاب دون أن يطلبها فعلًا، لكنه لم ينظر إلى النقابة نظرة الرضا، ولم يمنح التيارات السياسية الساكنة فيها أي مكاسب سياسية، خاصة أنه لم يخض حرب الاستئصال السياسي التي تعيش هذه التيارات من أجلها.
ظلت النقابة تعرض خدماتها على الانقلاب وتراود عن نفسها، لكن مؤشرات الأزمة (الاقتصادية والاجتماعية) انكشفت لكل ذي بصيرة، وصار يقينًا أن الانقلاب إلى زوال (مسألة وقت ليس أكثر)، لذلك وجب التموقع في مكان يدرُّ الفوائد القديمة منها طبعًا، مثل حقائب وزارية ثابتة صارت ملكًا للنقابة عُرفًا لا قانونًا.
الإضرابات الحالية ليست موجّهة للانقلاب إذًا، بل لكل من تسوّل له نفسه التقدم للحكم بعده بأية طريقة تكون. النقابة هنا وتستطيع أن تخرِّب إن لم تحصل على ما تريد، وبعض من هذه الرسالة موجّه للخارج قبل الداخل، باعتبار أن تونس تمرّ بمرحلة صفر سيادة وقرارها الاقتصادي خاصة ليس بيدها.
المعارضة تائهة وراء نرجسيات الزعماء
خطاب الشارع الديمقراطي المعارض للانقلاب لم يقدِّم الجديد في مسيرة 20 مارس/ آذار، بل راوح مكانه إذ ردّد الجمل التوصيفية نفسها التي قيلت في المظاهرة السابقة.
يُظهر الخطباء شجاعة كبيرة في مواجهة التزييف الذي يمارسه الانقلاب، لكن خارطة الطريق لما بعده لم تنكشف للمتابع، والسبب في تقديري هو المراهنة على تجميع أوسع ما يمكن من الطيف السياسي المعارض، بحجّة الخروج من الاستقطاب التقليدي على الأُسُس الأيديولوجية التي حكمت على الثورة بالفشل.
هذا هو رهان المشروع سياسيًّا، وهو رهان ضروري أيضًا، لكنه لن يتقدم بالمعارضة خطوةً، وذلك لبقاء زعامات كثيرة، وفي مقدمتها السيد نجيب الشابي، في مكانها المتخيَّل كزعامات ضرورة.
عمق الشارع المعارض للانقلاب هو حزب النهضة وأنصار الدكتور المرزوقي المخلصين وشباب ائتلاف الكرامة، ويتقدمهم طيف متنوع من الديمقراطيين غير الملتزمين حزبيًّا.
وهؤلاء هم العمق الشعبي لحكومة الترويكا (2012-2014)، وهم العمق الحقيقي الذي صوّت لقيس سعيّد عام 2019 قبل أن يتحول إلى أهم طيف يعارضه، ويظن هؤلاء أن شخصًا مثل نجيب الشابي يمكن أن يكون غطاء ديمقراطيًّا يكسر الاستقطاب التقليدي ويخرج العملية السياسية من معارك الأيديولوجيا، لكن السيد نجيب (وهو فرد بلا جمهور يتبعه) يعرف نقطة الضعف هذه ويستغلها بأبشع الصور الممكنة، إنه يريد لهذا الطيف أن يقدِّم له السلطة على طبق ليحقق ما يتوهّمه حقًّا طبيعيًّا في الزعامة.
هذه المكانة المتوهمة والمبنية على مطامع شخصية تعطِّل معارضة الانقلاب، وتحوِّل خشيتها من الاستقطاب إلى عائق سياسي ميداني، وتدفعها إلى تأجيل الخروج النهائي الفعّال ضد الانقلاب، ولا أراها ستمتلك شجاعة مصارحة الشارع بجمل واضحة تبيّن ما يجري في كواليس المعارضة.
وأعتقدُ أن هذا الوهن الذاتي سيجدُ في موجة الإضرابات الابتزازية الجارية حجّة لمزيد التأجيل، إذ لا يخفى على أحد أن النقابة تكرِّس هذا الاستقطاب برفضها أي تنسيق مع المعارضة، لأن النهضة موجودة في المعارضة.
اللحظة تقتضي جملًا سياسية صريحة
الخوف من الاستقطاب هو خوف نهضوي انتقل إلى بقية الطيف المعارض فأربكه، لذلك نعتقد أن اللحظة السياسة تقتضي نصًّا سياسيًّا مختلفًا، يقوم على مفردات واضحة، أولها أن معارضة الانقلاب حق سياسي مشروع للجميع وليس مطلبًا نهضويًّا يروم استعادة السلطة، وأن الاستقطاب الذي حاصر حزب النهضة وحكومة الترويكا عمل من أعمال الإجرام السياسي الذي يجب أن يواجَه في الشارع وبقوة الشارع، والهروب أمامه يسمح له بالتمدد في الفراغات التي يخلقها الخوف أو التذرُّع بحماية الدولة من الاحتراب الأهلي، وهذا ما جرى منذ الثورة.
لقد قدّم الانقلاب (دون أن يعلم) خدمة جليلة لمن يعارضه فعلًا، لقد كشف الأحجام والأوزان، وتبيّن أن الاستقطابيين الذين هم استئصاليون بالقوة لا وزن لهم في الشارع، ويمكن معاملتهم بنفس الاحتقار والاستهانة اللذين عاملهم بهما الانقلاب، لنقلها بصراحة: "لا يخاف من اليسار التونسي المتطرف والشبيحة إلا من هو أجبن منهم سياسيًّا".
هذه جملة أولى، أما الثانية فهي أن النقابة أداة الانقلاب الحقيقية وليست في موقع معارضته أبدًا، والمراهنة على تنسيق معارضة الانقلاب مع النقابة أو عدم الاشتباك معها (كما يحاول حزب النهضة ذلك) هو رهان خاسر وغزل منكوث.
والثالثة هي التحلي بشجاعة آن أوانها، فالخروج على الانقلاب عمل من أعمال الثورة لا يمكن ترذيله أو المزايدة عليه بالديمقراطية والوطنية، ولا يمكن الخشية من نعته بنعوت استئصالية لم يعد لها محل من الخطاب.
لقد فرز الانقلاب الساحة وكشف الوجوه والنوايا، ومن لم يبنِ على هذا الفرز لا يستحق أن يكون في أي مكان من الساحة السياسية، والجملة الأخيرة هي إنَّ أفضل ما تفعله زعامات سياسية انتهى عمرها السياسي فعلًا الانسحاب بكرامتها من الساحة، حيث أسمائها تنفر قومًا كثيرًا من الالتحاق بساحات معارضة الانقلاب.
الجملة الخاتمة هي الساحة خلف قصر الانقلاب مفتوحة لفعل تأسيسي يستعيد العملية الديمقراطية على قواعد ثابتة، وإذا واصلت المعارضة الديمقراطية تردُّدها، فإن الفاشية ستسبق الجميع وتفرض قواعد لعبتها.