لا ينتبه المدافعون عن مسار بناء الديمقراطيّة وتأسيس الحريّة إلى أنّ غياب مرجع يُحتكم إليه هو أخطر ما يتهدّد التجربة، هذه الأيّام وفي هذه السجالات العبثيّة. وأنّ خصومها في كلّ محاولاتهم السابقة لم ينجحوا في بلوغ هذه المرحلة مثلما نجحوا اليوم.
اليوم لا وجود لمرجعيّة قانونيّة ( إسفاف في التأويل) أو سياسيّة (تغييب مصلحة البلاد) أو أخلاقيّة( الاستهانة بأمانة التفويض). وهذا إذا تواصل سيكون كافيا لحصول الكارثة.
وبلادنا لا تخشى عودة الاستبداد أو الانقلاب السياسي على التجربة، فقد كانت هناك محاولات عديدة خابت.
من خلال يوميّات مشهدنا السياسي، بلادنا مهدّدة بالفوضى. و رئيس الجمهوريّة سبب أساسي في هذه الفوضى المُطلّة، إلى جانب سلوك بعض الكتل البرلمانيّة المنسلخة عن الديمقراطيّة المناشدة للشعبويّة والمتقاطعة مع الفاشية. وانتهاءً برئيس البرلمان وما يثيره وجوده على رأس المؤسسة التشريعيّة من توتّر.
من هذا المنطلق، يبدو لنا الشارع السلمي المُنظّم المُعبّأ والمدافع عن الدستور والديمقراطيّة والانسجام بين مؤسسات الدولة وتحميل كل من تمّ تفويضهم مسؤوليتهم كاملة، وإلاّ فلتُرجَع الأمانة إلى صاحبها (انتخابات مبكّرة). وهو شارع من خارج التجاذبات ما استطاع. وبهذا المعنى هو مضادّ للفوضى وساعيا إلى إيجاد مرجعيّة يحتكم إليها من مادّة المشهد الديمقراطي، بعكس دعاوى تحرّض أنصارها على التظاهر وتراه فوضى إذا كان دعوة من خصومها.
من المهمّ أن تكون الندوات والعرائض والتظاهرات والمظاهرات روافد لتحقيق هذا الهدف وتكوين رأي عام قوي أولويّته الدفاع عن الدستور والديمقراطيّة…هذا هو الشارع الديمقراطي المنتظر…
وكما كان من عناوين الحركة الوطنيّة "برلمان تونسي" تعبيرا عن أولويّة البناء السياسي الوطني، فإنّ أولويّة حركة الدفاع عن الدستور والديمقراطيّة في إرساء المحكمة الدستوريّة وقانون انتخابي جديد (ضرورة العتبة) للخروج من حكومات تسيير الأعمال إلى حكومات تحكم…
هذف مرحلي، يكون منطلقا لما بعده…
فإذا رميت يصيبني سهمي
الخطّ العربي هويّة ثقافيّة وفنيّة، وفي ثناياه تجربة فذّة من بين تجارب عرفتها الإنسانيّة فكّرت بالعقل وفي العقل. فالكتابة بما هي ضبط للمنطوق في حيّز مضبوط هو الورقة حوت كلّ علوم العربيّة، ومنها كانت أعظم مكتبة قدّمتها العربيّة للإنسانيّة.
لذلك ليس إلاّ الأسى أمام ما نرى، ولا وجه للتندّر والسخرية من الخطّ في سياق سياسي متوتّر. ولا مسوّغ لاعتماده في مناكفات غير مجدية. ولا يعني هذا أنّ سعيّد بلا مسؤوليّة وهو يُميل رأسه في خطّ كتابه أو في أمْرِه صاحبَ البريد بالانطلاق.
مسؤوليّته حاصلة، ومن المؤسف أن تتحوّل "العربيّة وخطّها" بسبب أدائه، وبسبب اندراج هذا الأداء في سياق تجالد سياسي، إلى "جلد للذات اللغويّة والفنيّة" وإن كان هذا حاصلا في قالب ردّة فعل.
نخالفه في أدائه، ونخالفه في تصوّره للسياسة والدولة والحكم والتراث والإسلام، وفي استهدافه للديمقراطيّة وفي خرقه للدستور. ولكن لا معنى، تحت وقع السجال السياسي، أن نحوّل اختلافنا معه إلى سخرية من التراث نفسه، حتّى وإن انتهينا في تحقيق هذا التراث وترتيبه إلى أنّه لم يعد، في أعلى صياغاته، قادرا على تقديم أجوبة عن أسئلتنا الراهنة… حتّى وإن تبينّا أنّه في جوهره إجابة عن أسئلة ليس منها شيء من أسئلتنا.
أمران قد يخرجاننا من هذا العبث الذي سيكون له ضرره الفادح إذا تواصل:
ـ توقّف الذي اكتشف في الرئيس قيس سعيّد ضالّته ومنْجاته. فناشده رغم خروجه عن المعلوم من الدولة المدنيّة بالضرورة. وقد كان هجاه ودوعشه في الدور الأول من الانتخابات.
ـ وكفّ خصوم سعيّد الذين يقاسمونه المرجعيّة عن الخلط بين أخطائه السياسيّة واجتهاداته الثقافيّة من ناحية، ومرجعيّته الثقافيّة من ناحية أخرى.
الاختلاف مع قيس سعيّد في مرجعيّته التراثيّة وفي تصوّره للإسلام وعدم استساغة عربيّته الضعيفة ليس مدعاة للتنصّل من الأصل الجامع.
شدّ انتباهي أمران في العلاقة بسعيّد:
ـ سكوت جلّ "الحداثيين" (اليمين الماركسي خاصّة) عن مرجعية سعيّد اللاهوتيّة (حتّى لا أقول الإسلاميّة)، وعن خطابه السياسي الشريعي، وعن تصوره للدولة والمرأة وخلطه الديني بالسياسي ومنزعه التكفيري الواضح. وهم من أقاموا الدنيا على عبارتي "خلافة" و"تدافع" وردتا في جمل طائشة، وتحاشاها ا"لإسلاميون" استجداءً لاعتراف مستحيل.
ـ نفور الإسلاميين من سعيّد وقطيعتهم معه رغم مرجعيّته وخطابه. فكأنهم قدّموا الديمقراطي على الإسلامي (اعتبار الإسلامي ديمقراطي والديمقراطي إسلامي مرحلة مازالت بعيدة). ولم يستثمروا في تجربة شقيقه الذي مرّ بالاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابيّة.
إلى جانب مفارقة أخرى في غاية الأهميّة نكتشفها مع قليل انتباه وتتمثّل في أنّ النهضة لم تعد تقدّم "عرضا دينيّا" في سوق الفكر والسياسة (بعبارة الباحث المميّز ماهر الزغلامي). وليس للنهضة إلا "عرضا سياسيّا" بمرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها إلى حدّ الآن على الأقل، وهي تمارس على نفسها رقابة ذاتيّة صارمة أمام خصوم يُحصون عليها أنفاسها. في حين أنّ قيس سعيّد يقدّم "عرضا دينيّا" متكاملا بمعجمه ومرجعيّته التراثية. ولا اعتراض عليه من "الحداثيين" وكأنّه يجذب المشهد إلى "وضع" لم يعد فائدة من الرجوع إليه.
تعَلْمن "الإسلاميون" في تونس على طريقتهم بعد مراحل مثيرة (قبول الإسلامي بالانتخابات وبنتائجها خطوة على طريق التعلمن ومغادرة مرجعيّته الأصليّة)، و"تديّن" الحداثيون على يد قيس سعيّد في وقت قياسي بسكوتهم عن خطابه الشريعي وتبرير بعض مستوياته في إطار صراعهم الأزلي مع الإسلاميين…ولا مانع عندهم من الالتقاء في مواجهة الإسلاميين مع آل سعود وزايد وسعيّد…وحتّى مع بني صهيون.