كثيرا ما يشار إلى العدد في موضوع المواجهة بين الانقلاب والحركة والديمقراطية. وتكون الوقفة الأسبوعية لجبهة الخلاص المثال الأنسب لإبلاغ الفكرة حول مسألة العدد (تقلص الحضور). وهي مسألة تثار من قبل أنصار الحركة الديمقراطية نقدا وتحذيرا من التولّي وتوجيها إلى مواطن الخلل غيرةً على المسار المغدور،كما تثار مسألة العدد عند أنصار الانقلاب (لا شارع لهم) باعتبارها دليلا على هامشية المطالبين باستعادة الديمقراطية واتجاه حركتهم إلى الخفوت فالسكوت النهائي.
إذا كان لا بد من نقد، فهو نقد يوجّه إلى خطاب الحركة الديمقراطية "خطاب المعركة" وما يجب أن يفصح عنه من عرض سياسي محيّن للخروج من الأزمة.
العدد والشارع السياسي (أعني الشارع الديمقراطي) مرحلة كانت وأدت مهمتها في إطار المواجهة بين السرديات وتثبيت حقيقة الصراع.
الوقفات الأسبوعية من أجل إطلاق سراع القيادات، ولو بعدد قليل، تؤدي دورها كاملا، فهي لا تنفصل عن الهدف الأساسي في استعادة الديمقراطية، رغم وجهها الحقوقي.وهنا أهمية دورها.
وأما النقص الواجب الانتباه إليه ففي مستوى الخطاب والرسائل الواجب توجيهها إلى الداخل والخارج (مثلا: تحيّة قوية أنصار الحرية والديمقراطية في الغرب والعالم، ودعوة الدول الغربية إلى احترام المبادئ التي أشهرتها، وأنّ الخروج من الديمقراطية المشروطة بالهيمنة بات ضروريا..).
ولن يكون خروج من الأزمة المركبة المتجهة إلى التعفن إلا من طريقين:
أ - تجاوز صراع توازن الضعف الحالي الذي لن يكون إلا بانقسام داخل أحد طرفي الصراع. وهذا ما سيكون، حسب تقديرنا، وعليه أكثر من مؤشّر. ومنظومة الانقلاب مرشحة لهذا الانقسام بسبب عجزها وتركيبتها المعقدة المجتمعة على غنيمة الحكم (في ظل أزمة خانقة) وعزلتها الداخلية والخارجية وتحمّلها المسؤولية كاملة فهي تمسك بكل السلطة.
ب - توتر البلاد بين خطر الانهيار المالي والانفجار الاجتماعي قد يفسح المجال للشارع الاجتماعي. وفي هذا قد تختلط أماني أنصار الديمقراطية بتفاعلات الأزمة الفعلية. الحديث عن الشارع الاجتماعي قصة معقدة، فمثلما قد تنفلت الأمور بفعل الأسباب نتيجة تراكم المستجدات، قد تُستدام حالة القبول بالأمر الواقع إلى مُدَدٍ غير متوقعة.
ولكن الأهم في كل هذا هو أن دور الشارع الاجتماعي يقتصر على إزالة العقبة التي تؤبّد الأزمة وكسر حالة التوازن (توازن الضعف ليتحرك "التاريخ") ، مثلما كان دور الانتفاض المواطني في الهامش في 2011 إزالة عقبة الاستبداد وكسر نظامه السياسي. ولكن ترتيب المرحلة الجديدة بعد 14 جانفي كان مهمة النخبة سواء نخبة النظام القديم أو نخبة المعارضة السياسية المدافعة عن الديمقراطية.
وهذا يعني أنّه حتى في حالة خروج الشارع الاجتماعي وأداء مهمته بأقل الخسائر والوصول، إلى وضع قابل للتعامل معه، فإنّ إعداد الحركة الديمقراطية واستعدادها للمرحلة الموالية، مرحلة الترتيبات، أمر لا بد منه سواء كانت في وضع مناسب أو في وضع صعب.
لذلك ما تقوم الحركة الديمقراطية وتصرّ على مواصلته في غاية الأهمية على محدوديته، ومهمّ استمراره بدعمه وتسديده ونقده وتوجيهه، فهو السبيل الأمثل إلى الطريقين المذكورين للخروج من الأزمة.فإمّا أن يؤدي تواصله إلى انقسام الجهة المقابلة تحت ثقل الأزمة، أو يمنح الحركة الديمقراطية استعدادا وجهوزية في حال دخول الشارع الاجتماعي على الخط.
ليس القصد التستر على ما يصيب الحركات من تعب وضعف وعدم قدرة على التعبئة، وهذا طبيعي في الحركة الديمقراطية نفسها، فهي مثل كل جسم حي بين مدّ وجزر. ولكن الحيوي هو التنبيه إلى حسن إدارة القدرة، فشروط الصراع متحولة، ومن حسن التقدير إدراك ما يلائم منها المرحلة الحالية وما يلائم المرحلة القادمة. وفي تقديري فإنّ الحركة الديمقراطية ولو كانت قادرة على التعبئة وملء الشارع فإنّ أسلوبها الحالي وتحكمها في جهدها يعتبر الأنسب. وقد تحمل السنة السياسية الجديدة معها جديدا يدفع إلى تبيّن شروط أخرى منها الشارع، إذا توفرت لها القدرة والفكرة.
لا أحد يحيط بما هو الأنسب وإنما هو اجتهاد وتقدير.
أرى خطاب المعركة والعرض السياسي موطن النقص الفعلي. ولا يعني هذا أنّه توجد جهةٌ تضنّ بهذا الخطاب وذاك العرض، ولكن التنبيه إلى النقص فيهما خطوة نحو تكاتف الجهود لتحقيقهما وتلافي النقص.