الانتقال إلى الديمقراطية منطقة زوابع سياسية واجتماعية، قبل رسوّ التجربة على أسس متينة. ويعرف الانتقال في مسيرته المضنية أخطر الآفات والجوائح السياسية. لذلك كان يجب أن تظهر الفاشية عارية الوجه، وكان يجب أن تظهر الشعبوية متوارية لتتكشّف خديعتها تدريجيّا.
وكان من الطبيعي أن تتقاطع مع الفاشية أحزابٌ محسوبة على الديمقراطية وتعتبرها وجهة نظر سياسية وهي تعاين استهدافها العنيف لمؤسسة الديمقراطية الأصليّة البرلمان وتراهن على تعطيل سيرها.
كما كان من الطبيعي أن تصبح بعض هذه الأحزاب ذراعا للشعبوية وممثلها في البرلمان وهي تصغي، بين يدي قيس سعيّد، إلى ترذيله لفكرة الحزب والحياة الحزبية قاعدة الديمقراطية، وتعاين خروقاته الجسيمة لصريح الدستور وتخلّيه عن دور رئاسة الجمهورية ومصالح تونس السياسية والاقتصادية في الخارج.
لذلك لم يكن متوقّعا من قيس سعيّد غير ردّ مشروع القانون إلى البرلمان. والردّ لا علاقة له بالسياسة والقانون ومصلحة البلاد، ولا يمكن تنزيهه عن العبث السياسي. بل هو العبث عينه. . ولا معنى لمناقشته على هذه الأصعدة إذا لم يكن لها مرجع من خُلُقٍ وتحقيقِ مصلحةٍ ودفع مفسدةٍ واحتكام إلى قاعدة.
كان يجب أن يكون موقف قيس سعيّد كما هو عليه في كتابه إلى مجلس النواب حتّى يتخارج ما تداخل من مواقف الفاعلين. وأهمّ ما حمله معه هذا الردّ ليس كشفه عن زاوية لم تتعرّ من زوايا الشعبوية الحادّة، فهي تقف عارية تماما إلى جانب الفاشية، وإنّما في ما ستعرفه الوظيفية الجديدة ( القديمة تُودِّع منها) من فرز غير هيّن. فإمّا أن تُركَم إلى جانب الشعبوية لتصبح منها، أو أن تَعرف انقساما تبدو بوادره في اختلاف مكوناتها حول ردّ قيس سعيّد.
مرّة أخرى لا معنى للتذكير بمن كان سببا في تعطيل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. وحتّى بالنسبة إلى من يلحّون على هذا فإنهم يقعون في تبرير فظاعة قيس سعيّد وإمعانه في هدم السقف على رؤوس الجميع في خدمة أجندات لم تعد تخفى.
وإذا سلمنا بما يذكّرون به من تهاون النهضة والنداء وسواهما. فإنّه لو كان لتذكيرهم أساسا من مصلحة البلاد لأدانوا سياسيا "ردّ سعيّد" بنفس القوّة التي يدينون بها تهاون من حكموا بين 2014 /2015. واستعادوا مرجعيّة الديمقراطية ومسارها والمصلحة الوطنية ومجالها في تحديد المواقف.
ومحصّل الأمر أنّه لا ردّ على الردّ، في تقديري، إلاّ من خلال القوى البرلمانية، وأن يكون كتاب سعيّد حافزا على استجماع ما يمكّن من تمرير مشروع القانون سواء بتوفير الـ 2/3 بعد ثلاث محاولات على الأقصى أو عند اللجوء إلى الـ3/5.
سعيّد الجهة الأكثر تهديدا، وقد توفرت الأسباب القانونية لعزله، ولكن لن يكون شرط عزله إلاّ سياسيا، وهو ما لا يجتمع في ظل الانقسامات الحادة التي تشق المشهد السياسي وتمعن في ترذيله. ومع ذلك فإنّ للديمقراطية قوّتها الذاتية للدفاع عن مسارها واستكمال بناء مؤسساتها واستعادتها دورها في مواجهة الأزمة المركّبة.