بعد الثورة وانتخابات 23 أكتوبر التأسيسية، برز مصطلح "الجمهورية الثانية" في إشارة إلى فصل جديد تمر به الدولة والسياسة. واليوم مع الانقلاب التافه يتحدث بعضهم عن "جمهورية ثالثة". فالتسمية حين لا يستدعيها مرجع فعلي ومنجز على الأرض تصبح ضربا من اللغو واللهو.
وكنتُ، وقتها، من غير المرتاحين لعبارة "الجمهورية الثانية" على معنى أنّ شروط "الجمهورية" لم تتحقق بالانتقال من دولة البايات إلى دولة بورقيبة.
وفي هذا تفاصيل وأحداث ومواقف سياسية قيّدها المؤرخون تتقاطع في فكرة الانقلاب على الوضع السابق دون تحوّل فعلي من ناحية بنية الدولة والنظام السياسي الجديد. ولكن ما يعنينا من كل هذا البناء القانوني الدستوري، فأساسيات الجمهورية تتمثّل في الفصل بين السلطات وعلوية القانون ودخول الناس إلى المجال العام بواسطة الانتخابات الحرة والنزيهة. وهو ما يعني خروج من بنية للنظام ثلاثية (دولة/مجتمع/الباي: سلطة فوق القانون) إلى بنية ثنائية (دولة/مجتمع).
هذه الشروط لم تتحقّق بعد إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 على طول العهدين البورقيبي والنوفمبري ونظام الاستبداد ببنيته الثلاثية (دولة/مجتمع/حاكم بأمره). فبقيت الجمهورية مجرّد إعلان ولم يتمّ تأسيسها الفعلي رغم اجتماع جلّ مواد بنائها في 1956، ورغم تطور الحركة الحقوقية والسياسية من داخل النظام ومن خارجه في ظل الحكم البورقيبي وبعده(توسع المطلب الديمقراطي واحترام التعدد والتنوع).
وإنّ العودة إلى سياق إعلان الجمهورية متمثلا في أجواء التأسيس الأوّل( 1956 - 1959) يتبين الملابسات التي جعلت من إعلان الجمهورية لا يتجاوز الإعلان.
وللتذكير، فقد افتتح المجلس التأسيسي أشغاله يوم 8 أفريل 1956 بعد انتخابه انتخابا عاما مباشرا في 25 مارس 1956. وكان ذلك تنفيذا لأمر عَليٍّ ملكي أمضاه "محمد الأمين باي صاحب المملكة" (كما جاء في نص الأمر) بتاريخ 29 ديسمبر 1955 (فكرة التأسيس سابقة على حدث الاستقلال) . وقام هذا الأمر على «منح مملكتنا دستورا يحدًد نظام السلط ويسيّر مختلف دواليب وحقوق المواطنين وواجباتهم» و «تمكين شعبنا من المشاركة مشاركة فعلية وبواسطة ممثليه المنتخبين في إعداد القوانين الأساسية للبلاد ».
وإنّ الاطلاع، ولو جزئيا، على مداولات المجلس القومي التأسيسي التي وردت مفصلة في مجلّدين كبيرين تحت عنوان "مناقشات المجلس القومي التأسيسي" (إعداد مركز البحوث والدراسات البرلمانية /1 جوان 2009: يغطي المجلد الأول فترة المداولات الممتدة من 8 أفريل 1956 إلى 21 جوان 1957، ويغطي الثاني ما بين 25 جويلية 1956 و1 جوان 1959)، يكشف عن جوانب مهمة من ملابسات إعلان الجمهورية وغيرها ممّا ألمّ بالدولة والسياسة والنخبة في تلك الفترة الحساسة من تاريخ تونس.
خلاصة الأمر، أنّ الانطباع بأن الجمهورية في خطابنا وحياتنا السياسية لم تتجاوز الإعلان لا يأتي من فراغ. بل إن موضوع الجمهورية لا ينفصل عن الدولة وتجربتها، في تاريخنا المعاصر. فهناك رأي عامّي هو أقرب إلى الفكرة السياسية الشائعة يذهب إلى أن ما عرفناه في تونس من انتظام سياسي (ولعله أيضا في بقية البلاد العربية) لا يرتقي إلى أن يكون "دولة" وهو أقرب إلى أن يكون سلطة تنتحل صفة الدولة وتتشبه بها.
ودون العودة إلى "مفهوم الدولة" بحدوده المعاصرة (رابطة المواطنة، القانون، الإدارة وعقلنة الممارسة) ، فإنّ ما عرفناه مع البايات والاستقلال كان أقرب إلى "سلطة غلبة" لا بأس من منحها اسم "دولة الغلبة". وكان أفق التجربة السياسية والحركة الديمقراطية بعد الاستقلال باتجاه "دولة التعاقد".
ومن هذا المنطلق كانت الثورة انتقالا غير مكتمل من "دولة الغلبة" إلى دولة التعاقد". ومن بنية النظام السياسي الثلاثية المانعة لكل اختيار حر إلى بنية ثنائية تتيح المشاركة العامة عبر الانتخابات الحرة تحت سقف القانون وعلويته.
ولكن ما عرفناه فيما سمي بـ"عشرية الانتقال" لم يكن "دخولا إلى زمن الجمهورية الثانية بقدرما ماكان محاولة لتأسيس الجمهورية الأولى وتحقيق إعلان 1957.
كان تأسيس الجمهورية - لو تحقق في 1957- مقدمة قوية لتأسيس الديمقراطية. فهل لنا أن نقول بأن غربة التجربة البورقيبية عن الديمقراطية وتطورها نحو نظام استبداد ب ورئاسة مدى الحياة يعود إلى الفشل في بناء فعلي للجمهورية التي بقيت محرّد إعلان.
وماذا عن الانتقال الديمقراطي؟ هل يوجد انتقال ديمقراطي فعلي أن هو محاولة لبناء جمهورية مؤجل؟ وهل تعثّره ثُمّ إجهاضه بسبب هذا الخلط بين المهمتين؟ وهل المهمتان منفصلتان أم هما عنوانان لمسمّى واحد ومهمة واحدة؟
في التجربة الفرنسية كانت الجمهورية مقدمة إلى بناء الديمقراطية. وهي تجربة لا يمكن تعميمها في علاقة الجمهورية بالديمقراطية.
وأيًا كان الأمر فإن انقلاب 25 جويلية الذي جرّ "الدولة" خارج الشرعية وجعلها في مواجهة المجتمع والنخبة وأعاد بنية نظام الاستبداد الثلاثية هو في حقيقته قفزة بلهاء إلى ما قبل التفكير في الجمهورية وما قبل التفكير في الدولة…وهو اختيار أحمق لمنظومة قديمة يسكنها وسواس الانبعاث الجديد وإعادة إنتاج نفسها حفاظا على مصالح غير مستحقة.
هو انقلاب بلا ذكرى (لم يخرج إلى ما بعد الانقلاب) وبلا أفق، فقد حوّل الأزمة المالية الاقتصادية إلى نكبة وطنية.
هو مستطيع بغيره….ومنه الشرط الدولي، والأجهزة، ومنه عجز من ناهضوه باسم استعادة الديمقراطية عن الاجتماع على كلمة دنيا…
من شأن هذا أن يعيدنا مجددا إلى حديث الجمهورية والديمقراطية والدولة والسياسة والنخبة…يعيدنا إلى حقيقة المأزق…