اليوم محاكمة قتلة الزعيم الشهيد صالح بن يوسف في الدائرة القضائية المتخصّصة في العدالة بالمحكمة الابتدائبة بتونس. وقد وجهت الإدانة بتهمة الاغتيال إلى جملة من الشخصيات السياسية الكبرى وفي مقدمتها الحبيب بورقيبة.
علاقتنا بصالح بن يوسف تبدو فريدة، فهو شخصية ثاوية في تضاعيف الوجدان، دون أن ندرك ماهية هذه العلاقة ولا كيف نشأت ؟ كل ما نعرفه أنّٰها غمرت طفولتنا حين لمحناها قهرا وأسى وانكسارا في عيون آبائنا وأمهاتنا.
كأنها لحظة ما قبل الإيديولوجيا، أو لعلها ما بعدها أيضا.
صارت جزءا من تكويننا العاطفي، وربما كانت من العوامل التي أكمل هذا التكوين. ولعله لكل ما ذكرنا من أمر هذه العلاقة ولخصوصياتها أنها اليوم لا تحيلنا أيضا إلى إيديولوجيا ولا إلى فكرة سياسية بعينها ولا إلى مرحلة تاريخية، اليوسفيّة لم تخلف أكثر من مظلومية . لذلك يلتقي في بن يوسف كل من آمن بحتمية ظهور الحقيقة وبقيمة رد الحقوق الى أصحابها.
هناك شخصيات - حتى إذا أصررنا على إقحامها في سياقنا الساخن واجتهدنا في شحنها بتجاذباتنا - تبقى عصيّة على ذلك، ولا تمثّٰل إلا نفسها. وشخصية صالح بن يوسف من هذه الشخصيات، شخصية جامعة.
حضورها لا يشبهه إلاّ حضور شخصية العظيم حشّٰاد. حضورها أشبه بآثار الغصة حين يمضى عليها حين من الدهر، تترك حرقة وحسرة وغبنا غير قابلة للإسقاط على ما سواها.
هذا ما وجدنا عليه أهلنا، كانوا كلما ذكروا سيرة الزعيم استعادوا حزنهم ودموعهم. بعد الاغتيال، عمّٰ الناس حزن ثقيل وغمٌّ شديد، فقد كان بكاء الشهيد علنا مجازفة ، فميليشيات بورقيبة من "لجان الرعاية" كانت تفرض رعبها وتنكيلها.
مُنع الناس من بكاء بن يوسف ، ولقد حدّثني بعض أهلنا، أنهم حين جاءهم نبأ الاغتيال، تمنوا أن يفقدوا عزيزا ليكون مناسبة لبكائية عالية ونُدبة ظاهرة، في ظاهرها بكاء عزيز وفي عمقها رثاء زعيم فقيد ووطن مُدمى.
ما تعرض له اليوسفيون، وأهلنا منهم، أشبه بالمقتلة العظيمة بلغ فيها التنكيل ذروته، وحتى مع مسار العدالة الانتقاليّة وهيئة الحقيقة والكرامة وتقريرها لم يذكر إلا النزر القليل من هذه المحرقة. وهذا النزر القليل أثار ويثير حفيظة الجلادين ومن ورثوا عارهم الذي لن تحجبه السياقات الخاصة ولن يطمره ما يُتعلل به من إكراهات لا يَفتأ يرددها من استؤمنوا على إظهار الحقيقة كاملة.
ظهور الحقيقة - ولو بعد زمن بعيد - يعيد الأمل في أنّٰ للحياة معنى ، فالمظالم التي يطويها الزمن دون رد الحق إلى أصحابه يجعل القيم خدعة ويلوّن الحياة بالعدمية والوجود بالعبثية وانتفاء الغاية.
يتأكّد اليوم أن اغتيال صالح بن يوسف جريمة دولة. وهذا جزء من الحقيقة وعيّنة من "إنصاف التاريخ"، وستظهر الحقائق تباعا، ولكن العار الأبدي والخزي الممتدّ سيلفان من قايض بهذه المظلمة بعد أن تقدم بها ملفا للعدالة، وباع ذمته بثمن بخس وتبعية ذليلة للأراذل من النظام القديم وزبالته المتعفّٰنة.
ستظهر حتما حقيقة كل الاغتيالات، وفي مقدمتها اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وإن طال ظهورها، ويقف الناس على هويّة المدبّر وفظاعة الجرم وحجم المؤامرة.