بقطع النظر عن وجهة النظر التي يعرضها الأستاذ رضا شهاب المكي، فإنّ المهمّ هو أنّ النقاش في بلاتو رونديفو يحوم حول فكرة يجتهد صاحبها في الدفاع عن صدقيّتها. (لا تهمني الغاية من بثها).
الفكرة ليست جديدة، وهي تَعرض لفكرة الانتظام السياسي بين التمثيل والتصعيد. ووراء كل هذا السؤال الأبدي: كيف للإنسان أن يعيش حرّا وفي جماعة في آن؟
نجح رضا في جرّ الثلاثي (سالم،ناحي،برهان) إلى أرضيّته، فأمكن له التحكّم بمسار النقاش وإيقاعه. وجعلهم في موضع المتلقّي الذي غالبا ما ينسى الأسئلة المطلوبة.
المذيعة ملاك هي الوحيدة التي بدت في مأمن. ولعل عدم تمثّلها عمق الفكرة حماها من الانزلاق إلى الأرضيّة التي أرادها رضا شهاب المكي، غير أنّ عدم الدخول إلى منطق الفكرة مكّنها في الوقت نفسه من طرح أهم سؤالين عليه هما: كيف تشكَّل/ومن يشكِّل حكومة يتمّ تصعيدها بالتصويت على الأفراد؟ وما الحاجة إلى رئيس جمهورية في هذا النظام السياسي الجديد؟
ما يعرضه رضا شهاب المكي شغفنا به في فترة الشباب في الحركة الطلابية. وذهبنا بعيدا في موضوع الدولة ووجود أشكال للانتظام تتجاوزها أو مضادّة لها (ما وراءها) وبمرجعية توحيدية ترفض الوسيط وكل علاقة عمودية (حاكم/محكوم). وأنّ الدين الخاتم في جوهره مضادّ للدولة ومجاوز لها باعتبارها تجسيدا لفكرة الوسيط المرفوضة كلاميا. ولئن ختَمَ النبوة فإنه فتح باب التاريخ على مصراعيه ومنع أن تكون الدولة الحديثة سدرة منتهاه.
والامر الذي لا بدّ من الإشارة إليه هو أنّ ما يعرضه شهاب المكي تصوّر شكلاني يستمدّ بعض مصداقيّة من تنزيله في سياق أزمة حقيقية تواجهها تجربة الانتقال إلى الديمقراطيّة عندنا، فضلا عن الأزمة التي تواجه الديمقراطيّة التمثيلية والدولة الحديثة، ولا تجد الإجابة العميقة رغم ما وفّرته الثورة وتجربتها في الانتقال من حقل خصب للملاحظة.
أكثر ما استوقفني موقفه من سهام بن سدرين حين قال في مواجهة صورتها: لا أستسيغ الإنصات إليها. وشدّني تلميحه إلى سلفية حمة الهمامي. وعجبت من عدم معرفته بنادية عكاشة، ووجدْتُه كأنّه في هذا قد أكّد أمرا/علاقة من حيث أراد إنكارها.
واضح أنّ رضا شهاب المكي هو صاحب الفكرة التي يعبّر عنها الرئيس قيس سعيّد. وما يذكره سعيّد في خطاباته يبدو صدى لصوت يرسله المكي. فضعف سعيّد الفادح فكرةً وجملةً لا يخفى. مما يجعله منه مجالا لإيحاء وتأثير غير بسيطين.
بدا لي تصوّر الأستاذ رضا للدولة والمجتمع والعلاقة التي تشدّهما نوعا ما سطحيّا، وذلك من جهة تصوره لطبيعة الدولة، ومن جهة عدم تمثّله لما يعرفه المجتمع من تعقّد (انقسام ثقافي واجتماعي هما نتيجة لتجربة الدولة نفسها).
عندما تفرغ من سماع رضا لينين تنتبه إلى أنّه غادر المرجعية الماركسيّة اللينينية دون أن تتأكّد من توثيقه الصلة بالنقد السياسي ذي الأفق الفوضوي (الفوضى بما هي درجة وعي سياسي راق وقصي). وهو يشترك مع الرئيس قيس سعيّد في المأزق نفسه (وليس الآخرون أقل منهما وقوعا فيه): الارتباك في مقاربة انتقال إلى الديمقراطيّة (ديمقراطيّة تمثيلية) لم يبلغ غايته بمحاولة نقله إلى ديمقراطيّة مباشرة بإجراءات شكلانية.
في حين أنّ الانتباه إلى حقيقة الانقسام الاجتماعي (سبب الثورة) ينبّه إلى مهمّة رأبه التي لن تتم إلا بجسر الهوة بين المركز والداخل وأداته الديمقراطيّة التشاركية والتنمية المحلية. وليس قفزة في المجهول نحو ديمقراطيّة تبدو مباشرة ولكنها في جوهرها شكلانية لا أفق لها غير دكتاتورية الزعيم الفرد وحوارييه المجانين.